تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

قوله تعالى: (سَأَصْرِفُ عَنْ آَيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آَيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِهَا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لَا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ): فسأصرفهم بالقدر الكوني فأمنعهم فهم القرآن وتدبره، وإن بلغهم لفظه ومعناه، فأقيمت الحجة الرسالية ومنعوا الهداية الربانية غيرة أن ينالها من ليس لها بأهل.

وقوله تعالى: (وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ): ولكنه لم يعلم بعلمه الأزلي التقديري صلاحا في تلك المحال فغار أي يضع فيها أشرف المعلومات من الأخبار الإلهية، وأشرف المفعولات من الأحكام الشرعية.

وقوله تعالى: (اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ): فهو أعلم حيث يجعل رسالته، وأعلم حيث يجعل هدايته، وإن كانت النبوة اصطفاء محضا لا ينال باكتساب أو اجتهاد، بخلاف الهداية فإنها اصطفاء ينال بالاكتساب والاجتهاد في تحصيل أسبابه، وإن كان مرد الأمر، عند التدبر وإعمال النظر، إلى المشيئة العامة، فـ: (إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ (27) لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ): فأسباب الهداية له مبذولة فليسع في تحصيلها، بقيد: (وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ): فلن تنالها مهما أوتيت من ذكاء وقوة إلا إذا شاء الرب، جل وعلا، اصطفاءك لذلك، فـ: "إياك نعبد" بتحصيل أسباب الهداية لا تنال إلا بـ: "إياك نستعين" على تطهير المحال وتزكيتها لتصير أهلا لقبول أخبار وأحكام رسلك عليهم السلام.

ومن صور هذه الغيرة:

غيرة من آتاه الله، عز وجل، علما، ولو يسيرا، غيرته على العلم أن يبذله لمن ليس له بأهل، فيضع الطيب في الحشوش وأماكن القذر، وبحلي الخنازير بعقود اللؤلؤ والجمان، فذلك، أيضا، مما لا يصح في حق من أوتي طرفا من الحكمة، إذ الحق أعز من أن يبذل لمن لا يعظمه، وصاحبه أغير عليه من أن يهبه لمن لا يستحقه، وإن كان التوسط في ذلك متعينا لئلا يدخل في دائرة المتوعدين بكتمان العلم من حيث لا يشعر، ولئلا يدخل في دائرة المتكبرين بما آتاهم الله من فضله وهو لا يعلم، فالسماحة والسخاوة في بذل الحق متعينة لا سيما في الأعصار والأمصار التي تخفى فيها آثار الوحي فلا يكاد يعلم حق من باطل ومعروف من منكر، والتواضع متعين لئلا ينفر المدعو، فإن النفوس قد جبلت على بغض من يترفع عنها بقول أو فعل.

فسخاوة بلا: سفه في بذل الحق لمن لا يستحقه فذلك من الإفراط، أو تقتير بحجب الحق عمن هو له أهل فذلك من التفريط.

وتواضع بين: ذل يهين به صاحب الحق: الحقَ، وكأنه امرأة قبيحة يفتش لها وليها عن أي زوج، وكبر يترفع به عن غيره فيكون سببا في نفرته وإعراضه عن قبوله.

والحق في سائر الأقوال والأعمال والأخلاق والأحوال: وسط بين طرفي الغلو إفراطا والجفاء تفريطا.

ومن صورها أيضا:

غيرة العباد على النعمة الكونية أن تقع في كافر أو فاجر فيسلطها على حرب الحق وأهله، وغيرتهم على النعمة الشرعية أن تقع في يد حبر سوء يستعملها في تحصيل حظوظ نفسه من رياسات ومآكل. فالأولون يفسدون الدنيا بجهلهم وسفههم، فيستعملون نعم الرب، جل وعلا، في حربه، والآخرون يفسدون الدين بسوء قصدهم ودنو هممهم التي سولت لهم استبدال الدني من العرض الزائل بالعلي من النعيم الباقي، فلهم من قوله تعالى: (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آَتَيْنَاهُ آَيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ (175) وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ): نصيب فلا يتوقف لهاثهم وتكالبهم على الحطام الزائل من لذة رياسة وهمية، أو شهوة جسدية.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير