يقول ابن تيمية، رحمه الله، في كلمات جامعات لأشتات ما تقدم:
"لكن هنا قد يعترض أمر فيه شبهة وهو أن يكون من المعارف والأحوال ما يقال فيه: إنه لا يصلح لبعض الناس فيغار أحدهم أن تكون تلك الأمور كذلك المنقوص الذي يصنع مثل ذلك، ويصفون الله بالغيرة أن يجعل هذا كهذا فهذا قد يكون حقا وإن لم يسم في الشرع غيرة فإن الله سبحانه يكره ويبغض أن يكون مع العبد ما يستعين به على معصية الله دون طاعته وأن يكون ما جعله للمؤمنين مع الكفار والمنافقين وكذلك المؤمنون ينبغي أن يكرهوا ذلك فكل ما نهى الله عنه وأمر المؤمنين بالمنع منه وإزالته فهو يكرهه.
وهذا كقوله تعالى: (سأصرف عن آياتي الذين يتكبرون في الأرض بغير الحق) قال طائفة من السلف: أمنع قلوبهم عن فهم القرآن.
هذا ما ذكره، (أي: القشيري رحمه الله)، عن السري أنه قرئ بين يديه: (وإذا قرأت القرآن جعلنا بينك وبين الذين لا يؤمنون بالآخرة حجابا مستورا) فقال السري لأصحابه: "أتدرون ما هذا الحجاب هذا حجاب الغيرة ولا أحد أغير من الله تعالى".
فهذا يشبه قوله: (ونقلب أفئدتهم وأبصارهم كما لم يؤمنوا به أول مرة)، وقوله: (فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم) فإن الله عاقب المعرض عن اتباع ما بعث به رسله بالحجاب الذي في قلوبهم فسمى السري هذا حجاب الغيرة لأنه تعالى يكره ويبغض أن يكون هؤلاء الذين كفروا وفسقوا عن أمره يعطون ما يعطاه المؤمن من الفهم لسبب هذه الغيرة التي وصف الرسول بها ربه فإن غيرته أن يأتي العبد ما حرم عليه ذكرها النبي صلى الله عليه وسلم وهي غيرة على ما هو من أفعال العبد التي نهى عنها وأما هذه الغيرة فهي غيرة على ما هو من فعل الرب.
والنبي صلى الله عليه وسلم لم يصف الله بأنه يغار على ما يقدر عليه من الأفعال ولكن لما رأى السري أن الشيء المحبوب النفس تغار عليه أن يكون في غير محله سمى ذلك حجاب الغيرة والله يحب لعباده أن يفعلوه من جهة كونهم مأمورين به لكنه سبحانه لا يفعله بهم ولا يحب من يفعله بهم فلا بد من التفريق بين مواقع الأمر والنهي ومواقع القضاء والقدر"
بتصرف من: "الاستقامة"، ص356، 357.
ويقول في وصف الرب الحكيم الكريم جل وعلا فلا يضع مواهبه إلا حيث تكون المحال صالحة قابلة، فليس كرمه سفها وليست حكمته منعا لمحل نقي من قبول أثر زكي من آثار علوم وأعمال الرسالات فهي الأصح خبرا والأعدل حكما، يقول في وصف الباري عز وجل:
"وهو سبحانه المعطي المانع لا مانع لما أعطى ولا معطي لما منع لكن مَنَّ على الإنسان بالإيمان والعمل الصالح ثم لم يمنعه موجب ذلك أصلا بل يعطيه من الثواب والقرب ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر وحيث منعه ذلك فلا يبقى سببه وهو العمل الصالح.
ولا ريب أنه يهدي من يشاء ويضل من يشاء لكن ذلك كله حكمة منه وعدل فمنعه للأسباب التي هي الأعمال الصالحة من حكمته وعدله وأما المسببات بعد وجود أسبابها فلا يمنعها بحال إلا إذا لم تكن أسبابا صالحة إما لفساد في العمل وإما لسبب يعارض موجبه ومقتضاه فيكون لعدم المقتضى أو لوجود المانع. وإذا كان منعه وعقوبته من عدم الايمان والعمل الصالح ابتداء حكمة منه وعدل فله الحمد في الحالين وهو المحمود على كل حال: كل عطاء منه فضل وكل عقوبة منه عدل". اهـ
"الاستقامة"، ص360.
والله أعلى وأعلم.
ـ[مهاجر]ــــــــ[21 - 11 - 2009, 08:37 ص]ـ
ومن مزالق السالكين في هذه المسألة:
ما أشار إليه ابن تيمية، رحمه الله، بقوله:
"وهذا الموضع يغلط فيه كثير من الناس في تمثلهم بالأشعار وفي مواجيدهم فإنهم يتمثلون بما يكون بين المحب والمحبوب والسيد والعبد من العباد من صدق المحب والعبد في حبه واستفراغه وسعه وبحب المحبوب والسيد وإعراضه وصده كالبيت الذي أنشده حيث قال:
أنا صب بمن هويت ولكن ******* ما احتيالي لسوء رأى الموالي.
وفي معناه قالوا: سقيم لا يعاد ومريد لا يراد.
¥