تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

وهذا التمثيل يشعر بأن العبد صادق الإرادة تام السعي وإنما الإعراض من المولى وهذا غلط بل كفر فإن الله يقول: "من تقرب إلي شبرا تقربت منه ذراعا ومن تقرب إلي ذراعا تقربت إليه باعا ومن أتاني يمشي أتيته هرولة وقد أخبر أنه من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها وأنه يضاعفها سبعمائة ضعف ويضاعفها أضعافا كثيرة وأخبر أنه من هم بحسنة كتبت له حسنة كاملة فإن عملها كتبت له عشر حسنات إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة ومن هم بسيئة لم تكتب عليه فإن تركها لله كتبت له حسنة كاملة وإن عملها لم تكتب عليه إلا سيئة واحدة.

وقال سبحانه: (والذين اهتدوا زادهم هدى وأتاهم تقواهم)، وقال: (ومن يعمل من الصالحات وهو مؤمن فلا يخاف ظلما ولا هضما) وقال: (من كان يريد حرث الآخرة نزد له في حرثه) إلى أمثال ذلك.

فكيف يظن أو يقال إن العبد يتقرب إليه كما يتقرب العبد والمحب الصادق إلى محبوبه وسيده وهو مع ذلك لا يقربه إليه ولا يتقرب منه بل يصده ويمنعه كما يفعل ذلك المخلوق إما لبخله وإما لتضرره وإما لغير ذلك ............ وفي الجملة فهذا الباب تكذيب بما وعده الله عباده الصالحين ونسبة الله إلى ما نزه نفسه عنه من ظلم العباد بإضاعة أعمالهم الصالحة بغير ذنب لهم ولا عدوان وتمثيل لله بالسيد البخيل الظالم ونحوه وإقامة لعذر النفس ونسبة لها إلى إقامة الواجب ففيه من الكبر والدعوى ما فيه ". اهـ

بتصرف من: "الاستقامة"، ص360_362.

فتمثل القوم بالأشعار التي فيها إقبال العبد وإعراض السيد، في مقام مناجاة الرب فيبذل العبد لسيده أسباب الرضا، والسيد معرض عنه غير ملتفت إليه، فالعبد مقبل بأسباب رضا الرب، جل وعلا، والرب، معرض عنه، يرى منه صدق النية وصحة الإرادة والعمل ثم هو مع ذلك يطرده عن بابه فيخذله ولا يسدده!. وتصور ذلك في حق الباري، عز وجل، من الفساد بمكان، بل هو من ظن الجاهلية الذي يذم صاحبه، إذ قد أساء الظن بالباري، عز وجل، فقاسه على السادة من البشر الذين يعرضون عن عبيدهم، وإن تقربوا إليهم، بخلا منهم أو أنفة إذ يلحقهم من الضرر بقربهم ما يلحقهم!، وهل يرد الباري، عز وجل، العبد عن بابه، كما يرد ملوك الدنيا من رق حالهم أنفة من تقريبهم؟!، بل هو، عز وجل، الكريم الذي يفيض على عباده من عطاياه الشرعية ما يلائم محالهم القلبية، فلا ينظر إلى الصور أو الأجسام، وإنما ينظر إلى القلوب والأحوال، فمن صلح قلبه واستقام حاله: اطرد سيره إلى الرب، جل وعلا، فيؤيده، عز وجل، برسم التفضل والامتنان، لا الوجوب والإلزام، فلا يوجب أحد على الرب، عز وجل، شيئا، إلا ما كتبه على نفسه بمقتضى كرمه وجوده من الرحمات الشرعية والكونية، والأولى أعظم قدرا فلا ينالها إلا من دوام الطرق على بابه، على حد:

أخلق بذي الصبر أن يحظى بحاجته ******* ومدمن القرع للأبواب أن يلجا.

ولا يدوام الطرق إلا من أحسن الظن فأحسن العمل، فمن ادعى حسن الظن بالله، عز وجل، وهو على البطالة مقيم، فباطنه وظاهره خلو من مراضي الرب، جل وعلا، فهو كاذب في دعواه مضيع لأخراه، فـ: "إن قوماً أساءوا العمل، وقالوا: نحسن الظن! ولو أحسنوا الظن لأحسنوا العمل" كما أثر عن الحسن رحمه الله.

و: "كَمْ مِنْ أَشْعَثَ أَغْبَرَ ذِي طِمْرَيْنِ لَا يُؤْبَهُ لَهُ لَوْ أَقْسَمَ عَلَى اللَّهِ لَأَبَرَّهُ مِنْهُمْ الْبَرَاءُ بْنُ مَالِكٍ". فقد قام بقلبه ما لم يقم بأصحاب الرتب العلية والصور البهية فاستحق التقريب واستحقوا الإبعاد إذ النظر إلى القلوب لا إلى الأبدان، فذاك حسن الظن بالرب، جل وعلا، الذي يحمل صاحبه على العمل لا الكسل، على الرجاء مع الخشية، لا القنوط مع اليأس، فـ: (إِنَّهُ لَا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ) إذ كيف لا يكون قنوط وقد أساء العبد الظن بربه فقاسه على ملوك الدنيا، فيئس من جواره، وهل ذلك إلا فرع عن فساد التصور الذي تولد عنه من اليأس ما أفسد حال كثير من العصاة الذين ظنوا أن غافر الذنب لن يغفر، وقابل التوب لن يتوب، فحملهم الشيطان على إساءة الظن به، جل وعلا، ففروا منه لا إليه، وهم في ذلك قد اقتبسوا شعبة من مقالة الخوارج الذين عبدوا الله، عز وجل، بالخوف، فقنطوا أنفسهم وقنطوا غيرهم من

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير