تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

فالباري، عز وجل، غني عن الشركاء، بل هو، عز وجل، كما قال عن نفسه: "أَنَا أَغْنَى الشُّرَكَاءِ عَنْ الشِّرْكِ مَنْ عَمِلَ عَمَلًا أَشْرَكَ فِيهِ مَعِي غَيْرِي تَرَكْتُهُ وَشِرْكَهُ"، فيتنزه أن تحل عبوديته في قلب قد شغل عنه، أو عقد ولاءه أو براءه لغيره، فبقدر غفلتك عنه يكون سقوطك من عينه، وبقدر ولائك لغيره يكون براؤه منك، وتأمل ما جرى قريبا في حدث الساعة الرياضي وما نضحت به القلوب من معاقد الولاء والبراء الكروي الذي أنسى المسلمين في البلدين معقد الولاء والبراء الشرعي، وبقدر تلبسك بمساخطه يكون بعدك عن مراضيه، وتأمل حال من أدمن سماع الغناء، هل يبقى في قلبه متسع للتنزيل؟، بل تجده غالبا أبعد الناس وأشدهم نفورا من سماع التنزيل، فالقرآن مادة الإيمان فبه ينبت ويزكو في القلب، والغناء، كما أثر عن ابن مسعود رضي الله عنه، مادة النفاق فبه ينمو ويرسخ في القلب، فإذا اجتمعت المادتان في القلب تدافعتا على حد ما يقع من سنة التدافع الكونية بين الحق والباطل، فالقلب لأيهما غلب، وإن صح اجتماع أصل الإيمان مع شعب النفاق في قلب واحد، كما قرر المحققون من أهل السنة، إلا أنها تضعف قوى القلب فتحد من سيره إلى الله، عز وجل، وإن لم توقفه.

والشاهد أن العبودية والذل لله، عز وجل، من أعظم النعم على العباد، بل ما صارت النبوة أعظم نعمة إلا لتقريرها لتلك الحال التي يصل صاحبها إلى الكمال بإظهار الفقر والحاجة والتضرع إلى رب العزة والجلال، فلا يتصور أن يهبها الله، عز وجل، لعابث لاه، بل إن حال العبد الواحد يتفاوت زيادة ونقصانا، فتجده في لحظات قد علق قلبه بالله، عز وجل، فعظمت قواه العلمية إذ قد تعلق قلبه بأشرف معلوم، وعظمت قواه الإرادية إذ قد علق قلبه بأشرف المرادات، فجاء عمله الظاهر ترجمان صدق لحاله الباطن، فإن التلازم بين الظاهر والباطن أمر لا يتصور تخلفه في أي عمل سواء أكان صحيحا أم فاسدا، واجبا أم محرما، ولذلك كان هذا الدليل الفطري الجبلي الذي يجده كل مكلف في نفسه شاهد عدل لقول أهل السنة بدخول العمل في حد الإيمان دخول الجزء في الكل بخلاف من ناقض صحيح المنقول وصريح المعقول وسوي المفطور وظاهر المحسوس، فجوز حصول الإيمان على حد الكمال لمن فرط في العمل بترك واجب أو فعل محرم، بل غلا من غلا فقال: لا يضر مع الإيمان معصية، فجعلوا الإيمان شيئا واحدا فرعا عن تأثرهم بمناهج الفلسفة التي عني أربابها بتقرير الماهيات المجردة، وذلك أمر يكذبه الحس قبل الشرع، فلا يستوي حال العبد الواحد، كما تقدم، بل هو في لحظات مقرب، وفي لحظات مبعد، فيقرب بالطاعة على حد قوله تعالى: (اسْجُدْ وَاقْتَرِبْ)، ويبعد بالمعصية، وهو بين الحالين متردد، فإن شاء الباري، عز وجل، أيده بروح منه فضلا، فأمده بأسباب الخير وأصلح له المحل وأعانه على الفعل: إعانة كونية خاصة لا تكون إلا لأهل الطاعة، وإن شاء خذله عدلا، فقطع عنه أسباب الخير ويسر له أسباب الشر وخلق فيه إرادة المعصية، فليس ثم هدى أو ضلال إلا من الرب ذي الجلال، تبارك وتعالى، يهدي من يشاء ويضل من يشاء، و: "تُعْرَضُ الْفِتَنُ عَلَى الْقُلُوبِ عَرْضَ الْحَصِيرِ فَأَيُّ قَلْبٍ أَنْكَرَهَا نُكِتَتْ فِيهِ نُكْتَةٌ بَيْضَاءُ وَأَيُّ قَلْبٍ أَبْشَرَ بِهَا نُكِتَتْ فِيهِ نُكْتَةٌ سَوْدَاءُ حَتَّى تَصِيرَ الْقُلُوبُ عَلَى قَلْبَيْنِ أَبْيَضُ مِثْلُ الصَّفَا لَا يَضُرُّهُ فِتْنَةٌ مَا دَامَتْ السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ وَالْآخَرُ أَسْوَدُ مُرْبَدٌّ كَالْكُوزِ مُجَخِّيًا": فتلك صورة أخرى من صور التفاوت في القلب الواحد فلا يقر قراره بل هو دوما منفعل حساس، يحب ويبغض، يوالي ويعادي، يرد جيوش الشبهات والشهوات في مواضع فينجو من فتن، ويخذل فلا ينصر جنده في مواضع فيقع في فتن أخر، فمد وجزر، وكر وفر، وظهور تعقبه هزيمة، وهزيمة يعقبها نصر: (وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ)، ولا ينتهي التدافع بين القوى القلبية: علما وعملا مع القوى الشيطانية: شبهات تقابل العلم وشهوات تقابل العمل، حتى يقبض العبد فتكون خاتمته: حسنا أو سوءا محصلة تلك الوقائع اليومية بل اللحظية.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير