فمن وجد نفسه في هذه الأيام المباركات أهلا للاقتراب فلا يحقرن شأنه أو عمله، وليحسن الظن بربه، عز وجل، لعله أن يقترب فيقرب، والرب، جل وعلا، كريم، إن وجد من عبده سيرا ولو بطيئا أعانه وأمده، وشكر سعيه بتكثير قليله.
بل إن الإيمان يتفاوت زيادة ونقصانا في الفعل الواحد لجملة من المكلفين بقدر تفاوت قدر الرب، جل وعلا، في قلوبهم، فيغار على أوصاف حكمته وعدله، فلا يسوي بين من أحضر قلبه وأجهد بدنه طلبا لمرضاته ومن غفل وتلهى وآثر الراحة العاجلة، وبقدر تلبس العبد بوصف العبودية، وهي مقتضى توحيده، عز وجل، بالألوهية، بإفراده بالأفعال والأحوال الباطنة والظاهرة، يكون سطوع شمس الإيمان في قلبه.
يقول ابن القيم، رحمه الله، في "مدارج السالكين":
"اعلم أن أشعة: (لا إله إلا الله) تبدد من ضباب الذنوب وغيومها بقدر قوة ذلك الشعاع وضعفه فلها نور وتفاوت أهلها في ذلك النور قوة وضعفا لا يحصيه إلا الله تعالى.
فمن الناس: من نور هذه الكلمة في قلبه كالشمس.
ومنهم: من نورها في قلبه كالكوكب الدري.
ومنهم: من نورها في قلبه كالمشعل العظيم.
وآخر: كالسراج المضيء وآخر كالسراج الضعيف.
ولهذا تظهر الأنوار يوم القيامة بأيمانهم وبين أيديهم على هذا المقدار بحسب ما في قلوبهم من نور هذه الكلمة علما وعملا ومعرفة وحالا.
وكلما عظم نور هذه الكلمة واشتد: أحرق من الشبهات والشهوات بحسب قوته وشدته حتى إنه ربما وصل إلى حال لا يصادف معها شبهة ولا شهوة ولا ذنبا إلا أحرقه وهذا حال الصادق في توحيده الذي لم يشرك بالله شيئا فأي ذنب أو شهوة أو شبهة دنت من هذا النور أحرقها فسماء إيمانه قد حرست بالنجوم من كل سارق لحسناته فلا ينال منها السارق إلا على غرة وغفلة لا بد منها للبشر فإذا استيقظ وعلم ما سرق منه استنقذه من سارقه أو حصل أضعافه بكسبه فهو هكذا أبدا مع لصوص الجن والإنس ليس كمن فتح لهم خزانته وولى الباب ظهره". اهـ
ويقول في موضع تال:
"وتأمل حديث البطاقة التي توضع في كفة ويقابلها تسعة وتسعون سجلا كل سجل منها مد البصر فتثقل البطاقة وتطيش السجلات فلا يعذب.
ومعلوم أن كل موحد له مثل هذه البطاقة وكثير منهم يدخل النار بذنوبه ولكن السر الذي ثقل بطاقة ذلك الرجل وطاشت لأجله السجلات: لما لم يحصل لغيره من أرباب البطاقات انفردت بطاقته بالثقل والرزانة.
وإذا اردت زيادة الإيضاح لهذا المعنى فانظر إلى ذكر من قلبه ملآن بمحبتك وذكر من هو معرض عنك غافل ساه مشغول بغيرك قد انجذبت دواعي قلبه إلى محبة غيرك وإيثاره عليك هل يكون ذكرهما واحدا أم هل يكون ولداك اللذان هما بهذه المثابة أو عبداك أو زوجتاك عندك سواء؟.
وتأمل ما قام بقلب قاتل المائة من حقائق الإيمان التي لم تشغله عند السياق عن السير إلى القرية وحملته وهو في تلك الحال على أن جعل ينوء بصدره ويعالج سكرات الموت فهذا أمر آخر وإيمان آخر ولا جرم أن ألحق بالقرية الصالحة وجعل من أهلها.
وقريب من هذا: ما قام بقلب البغي التي رأت ذلك الكلب وقد اشتد به العطش يأكل الثرى فقام بقلبها ذلك الوقت مع عدم الآلة وعدم المعين وعدم من ترائيه بعملها ما حملها على أن غررت بنفسها في نزول البئر وملء الماء في خفها ولم تعبأ بتعرضها للتلف وحملها خفها بفيها وهو ملآن حتى أمكنها الرقي من البئر ثم تواضعها لهذا المخلوق الذى جرت عادة الناس بضربه فأمسكت له الخف بيدها حتى شرب من غير أن ترجو منه جزاء ولا شكورا فأحرقت أنوار هذا القدر من التوحيد ما تقدم منها من البغاء فغفر لها.
فهكذا الأعمال والعمال عند الله والغافل في غفلة من هذا الإكسير الكيماوي الذي إذا وضع منه مثقال ذرة على قناطير من نحاس الأعمال قلبها ذهبا والله المستعان". اهـ
قال ابن تيمية رحمه الله:
"وقال، (أي: القشيري رحمه الله): سمعت السلمي يقول سمعت أبا زيد المروزي الفقيه يقول سمعت إبراهيم بن سنان سمعت محمد بن حسان يقول بينما أنا أدور في جبل لبنان إذ خرج علينا رجل شاب قد أحرقته السموم والرياح فلما نظر إلى ولى هاربا فتبعته وقلت له: تعظني بكلمة فقال: (احذروه فإنه غيور لا يحب أن يرى في قلب عبده سواه) ". اهـ
"الاستقامة"، ص363، 364.
¥