العلوم، وغذاء القلب بأصح الأعمال والأحوال، وأما أحكامها فلم يطرق العالم ناموس أفضل منها، فهي شريعة العدل والفضل، قد جمعت جلال عدل شريعة الكليم، وجمال فضل شريعة المسيح. فسدت بها كل الذرائع إلى الرب، جل وعلا، فلم يبق ذريعة إلا هي، إذ فيها الغنية عما سواها، فلم يتعبدنا الله، عز وجل، بعقل فلان، أو ذوق فلان، وإنما تعبدنا بشرع النبي الخاتم صلى الله عليه وعلى آله وسلم.
ومن رحمته، عز وجل، بعباده: أن أقام لهم جملة من الأدلة على صحة رسالته قد بلغت لمن نظر وتدبر: حد التواتر.
فحكمة الرب، جل وعلا، قد اقتضت أن يكون عظم دليل الصدق ملائما لعظم دعوى النبي الصادق، وعظم دليل الكذب ملائما لدعوى المتنبئ الكذاب ولو راج أمره حينا من الدهر استدراجا له وفتنة لتابعيه على غير سبيل الرشاد ورحمة بمن قصر إدراكه فصدقه بما جرى على يديه من الخوارق فلا بد أن يظهر من كذبه وتناقضه بعد ذلك ما يورث العلم القطعي بكذبه كما يظهر من حال النبي الصادق ما يورث العلم القطعي بصدقه، فالأمر في حق كليهما مطرد، وتأمل ما جرى للنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم من تأييد بالوحي المتلو المحفوظ فهذا دليل نقلي، والدليل العقلي الملزم لمن تأمله بصحة نبوته صلى الله عليه وعلى آله وسلم، والدليل الحسي الذي نشاهد آثار منه في كل زمان ولو كان كزماننا زمان انحسار وضعف، فدينه في نمو مطرد، وأصوله راسخة لم يقدر مشكك على نقض أحدها، وأخباره الغيبية يأتي تأويلها في عالم الشهادة كما أخبر صلى الله عليه وعلى آله وسلم، فهي أدلة قد بلغت، كما تقدم مرارا، حد التواتر الذي قد يعجز صاحبه عن تفصيل آحاده، وتأمل في المقابل ما جرى لمسيلمة وهو أشهر المتنبئين من خذلان وافتضاح بعد نوع تمكين قد جرى على حد ما تقدم من الفتنة والابتلاء.
وذلك من غيرة الله، عز وجل، على الحق، أن يدعيه من ليس له بأهل. فيظهر فيه آثار حكمته بعدم التسوية بين أعظم مختلفين: النبي الصادق والمتنبئ الكذاب، وآثار قدرته بافتضاح أمره وهتك ستره.
ومن غيرته للحق أن أيد أنبياءه عليهم السلام، بما تقدم، من الآيات الشرعية والكونية القاضية بصدق دعواهم، فلا تثبت النبوة بدليل آحاد، بل قد اقتضت رحمته وحكمته عز وجل: تواتر أدلة الحق لئلا تبطل الحجة الرسالية.
ومن غيرته لرسله عليهم السلام أن أهلك مكذبيهم وأذل مخالفيهم:
فأهلك أهل الأرض جميعا غيرة لنوح عليه السلام.
وجعل النار بردا وسلاما غيرة لإبراهيم عليه السلام أن يناله منها أذى.
وأغرق فرعون وحشده غيرة لموسى عليه السلام.
ورفع المسيح عليه السلام غيرة عليه من أبناء الأمة الغضبية لما كادوا له وأرادوا سفك دمه.
وأعلى لمحمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم ذكره، فقرن اسمه باسمه، ونصره بالرعب، فجاءه الطلقاء يوم الفتح رجاء عفوه، وفرت جحافل الروم من أمامه في تبوك، وقتل كسرى انتصارا له لما نال من مقامه الشريف، فجاءت الرسل باذان عامل كسرى على اليمن: "إن ربي قد قتل الليلة ربك".
واختار له خير طباق الأمة ليكونوا أصحابه وليبلغوا وحيه، فالحق أعظم من أن يوكل أمره إلى ظلمة مبدلين، كما يزعم أرباب مقالة السوء في خير من وطئ الثرى بعد الأنبياء عليهم السلام من صحب الرسول الخاتم صلى الله عليه وعلى آله وسلم.
فتلك الطريق التي شرعها الرب، جل وعلا، إليه: طريق النبوات التي سار عليها الرسل الكرام والصحب البررة وكل عالم أو عابد إنما مدح بقدر سيره على تلك الطريق، فبقدر تمكنه ورسوخ قدمه عليها يكون نصيبه من رفعة الذكر التي اختص بها الله، عز وجل، صاحب الرسالة صلى الله عليه وعلى آله وسلم.
فالإشكال في الطريق: من الذي يحدد معالمه، هل يحددها الوحي الذي جاء به النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، أو يحددها ذوق أو كشف فلان أو فلان من الشيوخ، وهم يصرحون بأن طريقتهم لا تنال بعلم، بل هي تجربة يخوضها المريد، ولكل تجربته الخاصة التي تعرض خلالها لأصناف من الأحوال والمقامات، لم تضمن عصمة من جرت على يديه، فلعلها أحوال أو مقامات شيطانية أجرها الله، عز وجل، على يديه ابتلاء له ولمن فتن به من أتباعه، وكم استدرج الشيطان من رجال قل علمهم وعظمت إراداتهم فهم أهل استعانة بلا عبادة، فلهم نصيب من: "إياك
¥