تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

صاحبها صلى الله عليه وعلى آله وسلم أنه لا نجاة إلا بسلوك طريقته، وأقام على ذلك من الحجج النقلية والعقلية والحسية ما يجعل كل عاقل منصف نظر فيها بعين الاسترشاد لا المعاندة يجزم بصحة دعواه، ثم جاء أولئك لينطق لسان مقالهم أو حالهم بأن النجاة حاصلة من غير طريقه، بل لكل ذوق قد يوصلة بتجربة وجدانية خاصة، ولكل قياس قد يوصله بتجربة عقلية خاصة، ولسان الأول: إذا أردت أن تعرف معرفتنا فجرب تجربتنا، وهي تجربة على غير منهاج النبوة، ولسان الثاني: إذا أردت أن تعرف معرفتنا فاقرأ كتابنا، وهو كتاب، أيضا، على غير منهاج النبوة.

فالولي يصل بذوقه، والفيلسوف يصل بعقله، وكلاهما، والكلام على من غلا في هذا الأمر فبلغ غاية الضلال فيه، مبتغ ما ليس له من مقام النبوة، فمَقَامُ النُّبُوَّةِ فِي بَرْزَخٍ فُوَيْقَ الرَّسُولِ وَدُونَ الْوَلِيّ، والفيلسوف، كما تقدم، قد يصير نبيا بممارسة جملة من الرياضات العقلية والبدنية، والتزام الشرائع الظاهرة لتهيئة المحل لتلقي علوم الوحي، فإذا زكت نفسه بالشريعة صار محلا قابلا لفيض العقل الكلي الفعال، فهو آنذاك في حل من الشريعة، كما أن الولي إذا وصل إلى مرتبة اليقين صار هو الآخر في حل من الشريعة، فالدعوى واحدة وإن اختلفت الألفاظ، ومردها عند التحقيق إلى معنى واحد: إبطال النبوات بتجويز حصول النجاة من غير طريقها، ولعل اتحاد تلك الدعوى هو الذي مهد بعد ذلك إلى المزج بين الطريقتين: الذوقية الوجدية، والعقلية الفلسفية، فأدى ذلك إلى ظهرو طبقة الغلاة الذين جمعوا بين السوأتين من أمثال السهروردي المقتول، وابن عربي الطائي صاحب الفصوص، فالسهروردي قد تأثر بالأفلاطونية فحمل عنها الفلسفة الإشراقية التجريدية التي تعنى بالنظر في الكليات دون الجزئيات فهي من العقم بمكان سواء استعملت في الإلهيات الغيبية أو حتى في الطبيعيات التجريبية، وابن عربي أشهر من أن يذكر، فقد صرح بما أمر بإخفائه، فظهر من فساد حاله وقوله ما قد علم. ودعوى الجمع بين العقل والذوق التي يدندن حولها اليوم بعض رواد المذهب العقلاني، وإن كان كثير منهم لا سيما من حسن ظنه بمقررات العقلانيين الأوائل من المعتزلة ومن حمل عنهم ما أراد إلا الانتصار للملة من خصومها فسار على طريقة الأوائل في مجادلة الأمم الأخرى بعقل لم يتزود بما يعصمه من النقل الصحيح، تلك الدعوى عند التحقيق شعبة من دعوى المزج بين ذوق الفقير وعقل الفيلسوف دون حاجة إلى مقررات النبوة التي جاءت بأصح الأحوال الذوقية وأكمل الطرق العقلية، ولكن القوم زهدوا فيها فاستبدلوا أذواقهم المتباينة ومعقولاتهم المتعارضة بما جاء به الوحي المعصوم، ولكل ذوقه، ولكل عقله، ولكل تجربته، كما تقدم، فإلى من يفزع عند وقوع النزاع وإلى من يحتكم عند وقوع الشجار؟!.

ولكل محدث في الديانة من ذلك نصيب، سواء أحدث في علم أو عمل، وإن لم يكن حكمه حكمهم فإنه لم يصل إلى ما وصلوا إليه من غلو وشطط، وإنما اشترك معهم في المعنى الكلي الذي صدرت منه مقالتهم ومقالته، فإن لسان حاله: تجويز حصول الكمال فيما أحدثه من علم أو عمل، وإن كان على خلاف ما قررته النبوة، فطريقته أكمل من طريقتها، وذلك معنى يعم كل محدث في علم أو عمل، في عقيدة أو شريعة، في سياسة أو سلوك، فالمتكلمون أحدثوا في الإلهيات ما لم يأت به الوحي وزعموا أنه طريق المحققين من الخلف لا المقلدين من السلف!، وأهل الرأي أحدثوا في الشرعيات بتقديم القياس العقلي على الدليل النقلي، وأهل السياسات الملوكية الجائرة استبدلوا مقررات العقول البشرية بمقررات السياسة الشرعية، وأهل السلوك استبدلوا طرقهم ومواجيدهم بمقررات التزكية التي جاءت النبوات بأكمل طرائقها.

وتلك جولة أخرى من جولات النزال المفتعل بين العقل والنقل يرد فيها الوحي المنقول بزعم مخالفته لقياس المعقول، والصراع اليوم بين الإسلام والعلمانية مظهر بارز من مظاهر ذلك النزال فهو تأويل سنة التدافع الكونية بين: الحق والباطل.

وليس لنا كما يقول ابن عقيل رحمه الله: "شيخ نسلم إليه حاله، إذ ليس لنا شيخ غير داخل في التكليف، والمجانين والصبيان يضرب على أيديهم وكذلك البهائم.

والضرب بدل من الخطاب، ولو كان لنا شيخ يسلم إليه حاله لكان ذلك الشيخ أبا بكر الصديق رضي الله عنه وقد قال: إن اعوججت فقوموني، ولم يقل فسلموا إلي". اهـ

فإذا كان الشيخ رائدنا لأنه جرب تجربة خاصة لم يتعبدنا الرب، جل وعلا، بها، فالعبادة قد نيط أمرها بالشرائع العامة لا الوقائع الخاصة، فليس ما وقع لفلان الشيوخ من الكشوف أو ما حكاه من الرؤى والمنامات، وإن كان حقا، بشرع ملزم، فإذا كان الشيخ رائدنا لما تقدم، مع كونه غير معصوم، وإن زعم ذلك بلسان مقاله أو حاله، لم تضمن النجاة فرعا عن عدم عصمة الأصل بخلاف السائر على طريق النبوات، فإن الأصل قد عصم بالوحي فصار تقليده عين الاجتهاد طلبا للنجاة.

فأين حال أولئك الذين قدموا أذواقهم على الشرائع، بل قد أبطلوها بمواجيدهم من حال الفضيل وإبراهيم والجنيد وسهل والسري والداراني وابن أبي الحواري ومعروف وأبي عثمان وابن أسباط والمرعشي وغيرهم من أئمة الطريق الأوائل؟!، وقد كانوا على منهاج النبوة باطنا وظاهرا، ولم يدع أحد منهم تناقضا بين ذوقه الباطن، وقوله وعمله الظاهر.

والله أعلى وأعلم.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير