وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: "مثل المؤمن مثل الخامة من الزرع تفيئها الرياح تارة تميلها وتعدلها أخرى ومثل المنافق كمثل شجرة الأرز لا تزال ثابتة على أصلها حتى يكون انجعافها مرة واحدة".
فالله تعالى يبتلي عبده المؤمن ليطهره من الذنوب والمعايب ومن رحمته بعبده المخلص أن يصرف عنه ما يغار عليه منه كما قال تعالى: (كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء إنه من عبادنا المخلصين)، وكما قال: (إنه ليس له سلطان على الذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون) ". اهـ
"الاستقامة"، ص364، 365.
فمن صُرف عنه السوء بمعنى شرعي قام بقلبه أو حتى بعارض كوني لا يد له فيه، بل قد وقي السوء ابتداء فعافاه الله، عز وجل، من مدافعة المعصية فلعله لو دافعها دافعته، وإن ظن نفسه أهلا لذلك، من صرف عنه ذلك فليحمد الله، فإن الفقه كل الفقه تجنب التعرض للفتن طلبا للكرامة، فقد يوكل العبد إلى نفسه فتستحل الشبهة أو الشهوة محلة قلبه، وتلك عين الندامة، كما سبقت الإشارة إلى ذلك في حكاية سمنون ودعواه العريضة!.
يقول ابن تيمية رحمه الله:
"فإذا صرف عنه ما يغار عليه منه كان ذلك من رحمته به واصطفائه إياه وإن كان في ذلك مشقة عليه فهو تارة يمنعه مما يكرهه له وتارة ليطهره منه بالابتلاء فإذا كان يغار من ذلك فإذا فعل العبد ما يغار عليه فقد يعاقبه على ذلك بقدر ذنبه". اهـ
"الاستقامة"، ص365.
فالعبد قد يعاقب بذنب خفي، فتزل قدمه حيث طلب ثبوتها لأمر قد ظهر منه ولم يلق له بالا، فغار الرب، جلا وعلا، على حرماته، فابتلاه بقدر ذنبه ذنبا آخر لتظهر فيه آثار قدرة الرب، جل وعلا، الذي ابتلاه عدلا ولو شاء لعافاه فضلا، وآثار حكمته إذ رتب العقوبة على الفعل، وذلك عين العدل، فجاءت المعصية الثانية جزاء للأولى إذ استهان العبد بها وبقدر هوانها عنده يكون عظمها عند الرب، جل وعلا، والعقوبة على ارتكاب معصية بتيسير أسباب معصية أخرى أعظم وأخطر العقوبات، إذ لا يلتفت صاحبها إلى استدراج الرب، جل وعلا، له بكيده المتين، بل لعله إمعانا في الجهالة والخذلان يفرح بالمعصية الثانية ويظنها منحة، فيبتلى بثالثة أكبر فرابعة ..... إلخ حتى يقل تعظيم حرمات الرب، جل وعلا، في قلبه بكثرة الاجتراء عليها، فيموت قلبه موتا بطيئا إذ لم يعد ينكر المنكر، بل قد ألفه وفرح به، وبذل وسعه في تحصيل أسبابه، والرب، جل وعلا، يملي له حتى إذا أخذه لم يفلته، (وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ).
يقول ابن تيمية رحمه الله:
"قال أبو القاسم: وحكى عن السري أنه قال: كنت أطلب رجلا صديقا مرة من الأوقات فمررت في بعض الجبال فإذا أنا بجماعة زمنى ومرضى وعميان فسألت عن حالهم فقالوا: ها هنا رجل يخرج في السنة مرة فيدعو لهم فيجدون
الشفاء فصبرت حتى خرج ودعا لهم فوجدوا الشفاء فقفوت أثره وتعلقت به وقلت له: بي علة باطنة فما دواؤها فقال: يا سري خل عني فإنه غيور لا يراك تساكن غيره فتسقط من عينه.
وهذا من قوله تعالى: (لا تجعل مع الله إلها آخر فتقعد مذموما مخذولا).
وقوله: (فلا تدع مع الله إلها آخر فتكون من المعذبين).
وقوله: (ومن يشرك بالله فكأنما خر من السماء فتخطفه الطير أو تهوي به الريح في مكان سحيق).
وقوله: (ولقد أوحي إليك وإلى الذين من قبلك لئن أشركت ليحبطن عملك ولتكونن من الخاسرين بل الله فاعبد وكن من الشاكرين).
وقوله: (ذلك هدى الله يهدي به من يشاء من عباده ولو أشركوا لحبط عنهم ما كانوا يعملون).
وقوله: (فأنساه الشيطان ذكر ربه فلبث في السجن بضع سنين يوسف". اهـ
"الاستقامة"، ص365.
فإن سقط العبد من عين الرب، جل وعلا، وكله إلى نفسه فتلاعبت به طلبا لحظوظها العاجلة وهو مسكين لا حول له ولا قوة بعد أن فارقه المدد الإلهي، وبقدر الركون إلى غيره يكون النفور منه، وبقدر مساكنة غيرة من صورة أرضية أو شهوة نفسانية تكون مفارقته.
والله أعلى وأعلم.
ـ[مهاجر]ــــــــ[25 - 11 - 2009, 09:47 ص]ـ
وفي لطيفة من لطائف علم السلوك يقول ابن تيمية رحمه الله:
¥