تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

"وأما مقام الرجل، (أي ذلك الفقير الذي سأله السري، رحمه الله، الدعاء)، وأمثاله في ذلك الزمان بجبل لبنان فإن جبل لبنان ونحوه كان ثغرا للمسلمين لكونه بساحل البحر مجاورا للنصارى بمنزلة عسقلان والإسكندرية وغيرهما من الثغور وكان صالحو المسلمين يقيمون بالثغور للرباط في سبيل الله وما ورد من الآثار في فضل هذه البقاع فلفضل الرباط في سبيل الله وأما بعد غلبة النصارى عليها والقرامطة والروافض فلم يبق فيها فضل وليس به في تلك الأوقات أحد من الصالحين ولا يشرع في ديننا سكنى البوادي والجبال إلا عند الفرار من الفتن إذ كان المقيم بالمصر يلجأ إليها عند الفتنة في دينه فيهاجر إلى حيث لا يفتن فإن المهاجر من هجر ما نهى الله عنه". اهـ

"الاستقامة"، ص366.

وهذا أحد آثار الهزيمة النفسية التي ابتلي بها رهبان النصارى الذين أخفقوا في مواجهة تيار الشهوات الجارف فكان من له دين فيهم أحد ثلاثة:

مقتول أو مسجون فإنه لا قدرة له على أن يدفع عن نفسه، وقد خرج عن دائرة العقد الاجتماعي، فصار أهلا للاسئصال.

أو مداهن كسائر أحبار ورهبان السوء في كل الملل والنحل، فيتقي شر الجماعة بمسايرتها، وذلك مئنة خفاء الحق بل اندثاره، ولم تسلم منه ملة، ولكن الله، عز وجل، اختص الملة الخاتمة، بحفظ أصولها، وإن خفيت أعلامها في بعض الأعصار أو الأمصار فإنه لا بد من قائم لله بحجة، لئلا تبطل الحجة الرسالية، فاندثار الحق قبل مبعثه صلى الله عليه وعلى آله وسلم أمر متصور بل كائن، إذ لم ينقطع الوحي بعد، فلا زالت البشرية تنتظر رسولا يجدد ما اندرس من رسوم التوحيد، فمع عظم فساد الشرك في كل زمان ومكان إلا أن فساده مع انتظار رسول يصلحه أهون بكثير من فساده بعد انقطاع الوحي فلا يعرفه أحد، ولا سبيل إلى بعث جديد فالنبوة قد ختمت، فكان من رحمة الله، عز وجل، أن اختص الرسالة الخاتمة بما لم تحظ به الرسالات السابقة من حفظ الأصول، ولو خفيت، وصلاح علمائها، إجمالا، ولو كان ذلك غير ظاهر في زماننا، إلا أن فسادهم مهما بلغ فإنه لا يصل إلى فساد علماء بقية الملل الذين استجازوا تبديل الوحي وتحريفه لفظا ومعنى، فكثير من علماء هذه الأمة يستجيز تحريف المعنى بتكلف التأويلات الظاهرة البطلان في المسائل العلمية أو العملية أو الحكمية إرضاء لخاص أو عام، أو طمعا في رياسة أو وجاهة ...... إلخ من الأغراض الدنية، وإن أحسن الظن به ككثير من الأفاضل الذين تأولوا مسائل من الإلهيات أو الشرعيات فلشبهة استولت عليه، ولكن جميعهم لا يستطيع تحريف الألفاظ، فضلا عن قيام بعض العدول المسددين ممن يستعملهم الله، عز وجل، في الذب عن دينه برد تلك التأويلات المبطلة لدلالات نصوص الوحيين، ولا يخلو زمان منهم وإن قلوا، فهم حجة الله، عز وجل، على خلقه، (لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ).

فتلك مزية امتازت بها الرسالة الخاتمة عن سائر الرسالات، وذلك ملائم لعالميتها، فإن تحريف الرسالات الخاصة، على ما فيه من فساد عظيم، لا يعدل تحريف الرسالة العامة لا سيما مع انقطاع الوحي، فلو بدلت هذه الرسالة فخفي ذلك على كل المكلفين فلم يعد الحق معلوما على وجه التحديد ولو لآحاد منهم، أو خفي وجه الحق فيها في مسألة علمية أو عملية على جميعهم، لبطلت الحجة وصار التكليف محالا لخفاء وجه الحق، ولذلك عصم الله، عز وجل، هذه الأمة من أن تجتمع على باطل ولو في مسألة فرعية من علم أو عمل، فكيف بأصول الديانة من المباني العظام من علوم الإلهيات والنبوات والسمعيات وأحكام العبادات والمعاملات والسياسات؟!.

أو هارب وهو حال رهبان النصارى الذين فروا إلى الصوامع إذ لم يقدروا على الإنكار ولم يأمنوا أذى الملوك والرعية، فالخاص والعام قد تربص بهم الدوائر، وكان لهم من الديانة ما يحجزهم عن مسايرة القوم في باطلهم فانسحبوا من حياتهم، وصار الخير لهم أن يعتزلوا الجماعة، وذلك أمر يضطر إليه الإنسان اضطرارا، فليس في حد ذاته مرادا، إذ لازمه تعطيل القوى البشرية فلا تنتفع الجماعة بأفرادها فكل قد اعتزل في ناحية، فلا يلجأ الإنسان إلى ذلك إلا عند عموم الفساد فيصير الأمن من الفتنة في حكم المحال، ولكل زمان فقهه، ولكل مكلف ما يلائمه

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير