تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

من الأحوال الباطنة والأعمال الظاهرة.

وما جرى على رهبان الأمم السابقة جرى على رهبان هذه الأمة من أهل الطريق فإن أمرهم لم يكن سوى ردة فعل لانغماس الناس في الشهوات الحسية، كما أشار إلى ذلك ابن خلدون، رحمه الله، في مقدمته، فكانوا آحادا في مقابل تيار جارف اجتاح عموم المكلفين فآثروا السلامة، وتركوا الميدان إذ لم يكن لهم طاقة بجالوت وجنوده!، وكثيرا منا يبتلى بذلك في لحظات الفتور وضيق الصدر بتوالي النكبات، فتنفسخ همته، فيؤثر القعود على النهوض، ولا معين في زمن الغربة إذ قل المعين لما عظم المطلوب كما أثر عن أبي الطيب من بديع نظمه:

غريب من الخلان في كل بلدة ******* إذا عظم المطلوب قل المساعد

وفي وصف أهل الغربة يقول النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: "إن من ورائكم أيّاماً للعامل فيها أجر خمسين منكم فقالوا: بل منهم، فقال: بل منكم، لأنكم تجدون على الخير أعواناً، وهم لا يجدون عليه أعواناً".

يقول أبو بكر بن العربي رحمه الله:

"تذاكرت بالمسجد الأقصى مع شيخنا أبي بكر الفهري الطرطوشي في حديث أبي ثعلبة المرفوع: إن من ورائكم أيّاماً للعامل فيها أجر خمسين منكم فقالوا: بل منهم، فقال: بل منكم، لأنكم تجدون على الخير أعواناً، وهم لا يجدون عليه أعواناً، وتفاوضنا كيف يكون أجر من يأتي من الأمّة أضعاف أجر الصحابة مع أنّهم قد أسّسوا الإسلام، وعضدوا الدين، وأقاموا المنار، وافتتحوا الأمصار، وحموا البيضة، ومهّدوا الملّة، وقد قال، صلّى الله عليه وسلّم، في الصحيح: "لو أنفق أحدكم كلّ يوم مثل أحدٍ ذهباً ما بلغ مدّ أحدهم ولا نصيفه"، فتراجعنا القول، وتحصّل ما أوضحناه في شرح الصحيح، وخلاصته: أن الصحابة كانت لهم أعمال كثيرة لا يلحقهم فيها أحد، ولا يدانيهم فيها بشر، وأعمال سواها من فروع الدين يساويهم فيها في الأجر من أخلص إخلاصهم، وخلّصها من شوائب البدع والرياء بعدهم، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بابٌ عظيم هو ابتداء الدين والإسلام، وهو أيضاً انتهاؤه، وقد كان قليلاً في ابتداء الإسلام، وصعب المرام، لغلبة الكفّار على الحق، وفي آخر الزمان أيضاً يعود كذلك، لوعد الصادق، صلّى الله عليه وسلّم، بفساد الزمان، وظهور الفتن، وغلبة الباطل، واستيلاء التبديل والتغيير على الحق من الخلق، وركوب من يأتي سنن من مضى من أهل الكتاب، كما قال، صلّى الله عليه وسلّم: "لتركبنّ سنن من قبلكم شبراً بشبر وذراعاً بذراع، حتى لو دخلوا جحر ضبٍ خربٍ لدخلتموه" وقال، صلّى الله عليه وسلّم: "بدأ الإسلام غريباً، وسيعود غريباً كما بدأ" فلا بد، والله تعالى أعلم، بحكم هذا الوعد الصادق، أن يرجع الإسلام إلى واحد، كما بدأ من واحد، ويضعف الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، حتى إذا قام من قائم مع احتواشه بالمخاوف وباع نفسه من الله تعالى في الدعاء إليه كان له من الأجر أضعاف ما كان لمن ان متمكّناً منه معاناً عليه بكثرة الدّعاة إلى الله تعالى، وذلك قوله: "لأنّكم تجدون على الخير أعواناً وهم لا يجدون عليه أعواناً" حتى ينقطع ذلك انقطاعاً باتّاً لضعف اليقين وقلّة الدين، كما قال، صلّى الله عليه وسلّم: (لا تقوم الساعة حتى لا يقال في الأرض الله الله) ". اهـ

نقلا عن "نفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب"، لأبي العباس المقري التلمساني ثم الفاسي رحمه الله.

وصحب محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم قد جاوزا قنطرة التعديل إلى ضفة العدالة المطلقة فلا تضر حتى جهالة أعيناهم فهم المزكون المعدلون بتزكية وتعديل الوحي النازل رغم أنف أعدائهم من أصحاب البدع المغلظة ومن تلقف شبهاتهم _ فطار بها وبثها في الآفاق نيلا من الصدر الأول _ من المستشرقين والمستغربين والعلمانيين المعاصرين.

وأحيانا يكون سلوك ذلك الفقير في سكنى الكهوف خيرا من الخلطة التي تفسد القلوب والعقول أحيانا!، فلا يسلم حتى السائر في الطريق العام من فتن تعرض على قلبه وعقله عرض الحصير، وفي حديث أبي سعيد الخدري، رضي الله عنه، مرفوعا: "يُوشِكُ أَنْ يَكُونَ خَيْرُ مَالِ الْمُسْلِمِ غَنَمًا يَتْبَعُ بِهَا شَعَفَ الْجِبَالِ وَمَوَاقِعَ الْقَطْرِ، يَفِرُّ بِدِينِهِ مِنَ الْفِتَنِ"

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير