ألوية الولاء والبراء، فالولاء لمن معه القوة والمال والنفوذ، وإن كان أفسد الناس في الشرعيات فمعه من الكونيات ما يجبر كسره!، والبراء ممن لا يرتجى نفعه العاجل، وإن كان على الطريقة المثلى في الشرعيات، فليس له من المؤهلات المادية ما يشفع له ليلتحق بالنظام الدولي الجديد الذي أقيم على عقد المنفعة العاجلة، وذلك، فرع عن فساد التصور العلمي لمعنى المنفعة الحقيقية لغياب النبوات: مادة صلاح الأفراد والجماعات.
وألا يغفل في نفس الوقت جانب الحكمة فيلتفت بالكلية إلى جانب القدرة، على طريقة الغلاة من أهل الطريق أصحاب الإرادات بلا علم، فعندهم الاستعانة دون العبادة، ولهم أحوال عجيبة وليس لهم علوم وأعمال صحيحة، إذ قد انصرفوا عن تحصيل الحكمة الربانية من مظانها، فزهدوا في علوم النبوات ودخلوا في أنواع من المجاهدات والرياضات صيرتهم رهبانا بالليل والنهار!، وقد كان أصحاب محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم رهبانا بالليل: فرسانا وصناعا وزراعا وتجارا بالنهار فحققوا تلك الثنائية التي لا تكاد تسلم لأحد في زماننا.
والتنزيل شاهد لتلك الثنائية إذ لا بد من بذل السبب بمقتضى الحكمة، ودعاء الرب، جل وعلا، والاستغاثة به بمقتضى القدرة:
فبالحكمة أمر نوح عليه السلام أن يصنع الفلك مباشرة لأسباب النجاة وبالقدرة أنجاه الله، عز وجل، ومن معه في الفلك.
وبالحكمة أمر موسى عليه السلام بضرب الحجر بعصاه مباشرة لأسباب استنباط الماء، (فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ) منه بمقتضى القدرة النافذة.
وبالحكمة أمر أن يضرب البحر بها فـ: (انْفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ) بمقتضى القدرة النافذة.
وبالحكمة أمرت مريم عليها السلام أن تباشر سبب إسقاط الرطب، فـ: (هُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ) فتساقطت عليها رطبا جنيا بمقتضى القدرة الربانية.
وبالحكمة بذل النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم والصديق الأعظم رضي الله عنه أسباب النجاة من مكر قريش ليقتلوه أو يثبتوه، فأنجاه الله، عز وجل، بقدرته لما نفدت الأسباب وبلغ القوم الغار فـ: "يا رسول الله لو نظر أحدهم تحت نعليه لأبصرنا" فكان جواب من بذل السبب وعلق قلبه برب السبب: "ما بالك باثنين الله ثالثهما". فهو معها معية النصرة والتأييد الكونية فلن يصل إليهما العدو إذ شاء الله، عز وجل، ألا يصل ولم يكن ذلك ذريعة إلى ترك أسباب النجاة والاحتياط.
وبالحكمة يطأ الذكر الأنثى فذلك سبب الاستيلاد حفظا للنوع، وبالقدرة يقع الاختلاط بين المشيجين ليكون المولود: (أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ (58) أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ).
وبالحكمة يبذر الزارع البذر فذلك سبب الاستنبات، وبالقدرة يكون الإنبات، فبالحكمة: (تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا)، فأثبت لهم الزرع مباشرة لأسبابه، وبالقدرة: (أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ (63) أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ)، فأثبت لهم فعل الحرث مباشرة للسبب، ونفى عنهم فعل الإنبات إذ قد ضمن الاستفهام معنى النفي.
وبالحكمة يرمي الرامي في ساحات الحرب فيبذل سبب الإصابة، وبالقدرة يصيب الله، عز وجل، برميته من شاء من أعدائه: (فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى)، فأثبت له الرمي من جهة: مباشرة سببه ابتداء فذلك فعله، ونفاه عنه من جهة: إصابته انتهاء فذلك فعل الرب جل وعلا.
فإذا نظر العباد إلى الأسباب فتعلقت قلوبهم بها وركنت نفوسهم إليها كما يقول ذلك الفاضل: خرق الله، عز وجل، العادة الكونية المطردة انتصارا لأوليائه وإعجازا لأعدائه. فصارت النار التي جمع لها قوم إبراهيم عليه السلام من أسباب الإشعال ما صيرها نارا عظيمة فكان لها شرر عظيم ولهب مرتفع فلم توقد قط نار مثلها، كما يقول الحافظ ابن كثير رحمه الله، صارت تلك النار: بردا وسلاما بمقتضى القدرة الربانية التي أبطلت تأثير السبب فنزعت من النار قوى الإحراق، فصارت على الضد من عادتها: (بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ).
والله أعلى وأعلم.
ـ[زهرة متفائلة]ــــــــ[26 - 11 - 2009, 02:22 م]ـ
الحمدلله والصلاة والسلام على رسول الله .... وبعد:
الأستاذ الفاضل: مهاجر
جزاك الله خيرا .... على هذه المعلومات القيمة ..... جعلها الله في موازين حسناتكم .... اللهم آمين
لفتة لطيفة أحب أن أشارك بها في هذا الموضوع المتميز
وهي عندما كنت ألخص كتاب (مدارج السالكين) لابن القيم الجوزية استرعى انتباهي إن سورة الفاتحة على الرغم من قصرها فإن فيها من الأسرار العظيمة والفضل ما الله به عليم ..... فهي تشتمل على أنواع التوحيد الثلاثة، توحيد الربوبية وتوحيد الألوهية وتوحيد الأسماء والصفات .... هذا غير أنها تشتمل على اسم الله الأعظم الذي إذا دعي به الله استجاب له ....
¥