تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>
مسار الصفحة الحالية:

وهذا باب جليل القدر دقيق المسلك في معرفة مدى امتثال العبد لأمر الرب، جل وعلا، وهل يؤثر حظ دينه على حظ نفسه أو هو صاحب دعوى كدعوى أصحاب المحنة، فلا مستند له سوى نفس الدعوى!، وكم ادعى أناس حب الله، عز وجل، وحب رسوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم وشاهد الحال ينقض المقال نقضا، بل ينسفه نسفا، فلا الواجب مفعول، ولا المحرم متروك، ولا رضا الرب، جل وعلا، هو المبتغى المأمول، وإنما حظ نفس باطن يظهر إذا أقبلت الدنيا، فهو زاهد لخلو يده منها فإذا امتلأت تبين آنذاك من بكى ممن تباكى فامتاز الصادق من جملة الكاذبين، فأصحاب الدعاوى الظاهرة كثير، وأصحاب الحقائق الباطنة قليل فمن كل واحد ألف هم البعث إلى جنان الرحمن، فإن صدق واحد فقد كذب بقية الألف، مع إجماعهم في الدنيا على طلب النجاة، لكن السائرعلى طريق النبوات قد امتاز عن السائر على طريق أعدائها، والسير على طريقة خاتمهم صلى الله عليه وعلى آله وسلم وقد جمعت أزمة النجاة في يده، ذريعة النجاة من سائر المهلكات، ففيها الخبر الصحيح وفيها الحكم العادل وفيها غذاء القلب بسائر الأحوال الإيمانية، والعقل بسائر الأقيسة القرآنية، والفطرة فلا تقع فيه إلا على ما يوائمها.

وعند الشدائد تعرف أقدار الرجال، وعند تزاحم الحظوظ يعرف المحق من المبطل، وعند ورود النكبات تحرر معاقد الولاء والبراء فيعلم من والى لله وعادى له، ومن والى لحظ نفسه وعادى له، فتعلقت همته بدعوى جاهلية أو نعرة قبلية فقدمها على ولاء أصحاب الطريق الشرعية إذ قد ابتلي بأذاهم فلم يصبر، وهذا حال معظمنا فإنه مؤمن ما لم يبتلى!، فإذا ابتلي تمحيصا وأوذي في الله: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آَمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ)، فخسر رضا ربه، عز وجل، ولم يصبر على أذى من يجب لهم عليه عقد الموالاة الإيماني فنقضه أو كاد انتصارا لحظ نفس في جليل أو حقير.

والفتن مهما حقرت تصيب كل منا بأثر في نفسه يعرف منه أصادق هو أم مدع كذاب!.

ودقائق القلوب لا يعرفها إلا بارئها، عز وجل، وتصور العدل التام من غير الأنبياء عليهم السلام، لا سيما حال الغضب، إذ تطيش العقول أمر محال إذ لم يعصم سواهم، فليس لأحد أن يقول: "اكتب فوالذي نفسي بيده ما خرج منه إلا حق"!. وإنما يعرض المنصف عمله إن كان طالبا للحق على قياس الشرع فما وافقه قبله ولو كان حجة لخصمه وما خالفه رده ولو كان حجة له، وذلك ميزان غائب عن حياة الأفراد والجماعات المسلمة، وعذرنا في ذلك ندرة بل ربما عدم من يزن لنا الأمور بميزان الشرع من أهل العلم والفضل فيفصل منازعاتنا بردها إلى محكم الوحي، والميزان لم يرفع بعد، ولكن الوازنين به قد رفعوا أو كادوا: "إن الله لا يقبض العلم انتزاعاً من الناس ولكن يقبض العلم بقبض العلماء حتى إذا لم يترك عالماً، اتخذ الناس رءوساً جهالاً"، وإذا ترأس الجاهل رأيت من دنو همته وخسة تصوره وفساد عمله ورداءة كيله أمرا عجبا، ولو تولى أهل العدل فض أي نزاع ما صارت الصغائر كبائر، والمحقرات معظمات تفصم عرى المحبة والولاء انتصارا لها، ولكن رياسة الجهال قد أفسدت العام والخاص! ولم يبق لذي عقل إلا تقليب كف أو لزوم صمت إلى أن تهدأ نفوس المتنازعين لعلهم يردون الأمر إلى حكم رب العالمين.

وأما النوع الثاني من أنواع الرضا فعنه يقول ابن تيمية رحمه الله:

"الرضا بالمصائب كالفقر والمرض والذل فهذا الرضا مستحب في أحد قولي العلماء وليس بواجب وقد قيل إنه واجب والصحيح أن الواجب هو الصبر كما قال الحسن البصري رحمه الله: الرضا عزيز ولكن الصبر معول المؤمن.

وقد روي في حديث ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: (إن استطعت أن تعمل لله بالرضا مع اليقين فافعل فإن لم تستطع فإن في الصبر على ما تكره خيرا كثيرا) ". اهـ

"الاستقامة"، ص373، 374.

فهو الرضا بالمصائب كالفقر والذل والمرض، إن غلب صاحبها على أمره فعدم سببا رافعا لها، فواجبه الصبر والمدافعة، فإن عُدِمَ المدافعة فالصبر إذ ما لا يدرك كله لا يترك كله، (فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ).

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير