تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>
مسار الصفحة الحالية:

وقد اختلف أهل العلم فيه كما تقدم من كلام ابن تيمية، رحمه الله، فمنهم من أوجبه وذلك قول في زماننا عزيز، إذ كان كذلك زمن الحسن، رحمه الله، فكيف بزماننا وقد رقت الديانة وغلظت حجب النفس وحظوظها العاجلة فلا ترضى إلا إذا نالت مرادها عاجلا غير آجل، فالنسيئة عندها محظورة، إذ لا ربا إلا في النسيئة وهي في تحصيل حظوظها قد التزمت منهاج الشريعة، فلا تعرف في تحصيل شهواتها إلا التقابض يدا بيد، فإن لم يظهر للقول أو العمل أثر عاجل يورث النفس لذة، ولو كانت وهمية، إذ القول كاذب والعمل فاسد، فإنه لن يتم الصفقة، ولو كانت رابحة لمن صبر واتقى فإن ذلك من عزم الأمور، فالصبر والتقوى قرينان إذ معنى الكف في كليهما كائن فالصابر يكف نفسه عن الجزع والتسخط وذلك عند التأمل كف لها عن حظها فإن حظها في المصائب بث مكنونها ولو بارتكاب ما يسخط الرب، جل وعلا، وتأمل كثيرا ممن خذله الله، عز وجل، بعدله ولو شاء لأيده بفضله ولكنه بما كسبت يداه قد صار محلا غير قابل لآثار الفضل فأنفذ فيه الرب جل وعلا، عدله فوكله إلى نفسه فخذل في نازلة أو مصيبة، فارتكب من المساخط والمناهي ما يعجب له بعد زوال السكرة ومجيء الفكرة، وذلك حال معظمنا عند ورود الشبهات فلا نظر ثاقب وعند ورود الشهوات فلا قلب سالم ولا عقل حاكم، وإنما انسياق خلف حظوظ النفس وطلب لما يسكنها عاجلا ولو كان فيه عطبها آجلا، والمعصوم من قد عصمه الرب، جل وعلا، فتروى حيث لا ترو، وتثبت حيث لا تثبت، ورسوخ قدمه على الطريق إذ زلت أقدام كثير من السائرين، وأولوا العزم من الرسل عليهم السلام خمسة فقط، فكيف بعدة أولي العزم من غيرهم؟!. ولا تعجب لمن هلك كيف هلك، وإنما اعجب لمن نجا كيف نجا.

ومن أهل العلم من اقتصد فجعله من المستحبات، فأوجب الصبر حدا أدنى، وجعل الرضا حدا أقصى لا تناله إلا النفوس الكبيرات، فـ:

إن استطعت أن تعمل لله بالرضا مع اليقين فافعل فإن لم تستطع فإن في الصبر على ما تكره خيرا كثيرا

فالشرط قد سيق مساق الإلهاب فذلك مئنة من الحض عليه وجوبا أو استحبابا، والشرط الذي ذيل به الحديث قرينة لفظية على كون الرضا من مراتب الاستحباب فهو متضمن للصبر وزيادة، فبينهما عموم وخصوص مطلق، فكل راض صابر ولا عكس.

وإمعانا في بيان أفضلية الرضا على الصبر جاء الأمر بالفعل فيه دون الصبر، فجاء التصريح بالأمر في الرضا، وجاء التعريض بالخبر ذي الدلالة الإنشائية في الصبر: "فإن لم تستطع فإن في الصبر على ما تكره خيرا كثيرا "، فهو كأي نص على فضل عمل من الأعمال: خبر من جهة بيان فضله، وأمر من جهة لزوم العمل به فرعا عن فضيلته المنصوص عليها إذ ذلك مما قد علم بداهة، فلا يذكر الشيء في معرض المدح إلا لحمل المكلفين على الامتثال به، كما أنه لا يذكر في معرض الذم إلا لحمل المكلفين على اجتنابه.

فحد الكمال الواجب: الصبر إذ بدونه يصير الفاعل من أهل الوعيد، بل قد ينتقض عقد إيمانه إذا تمادى في سخطه فجهر بالكفر الصريح، كما يقع ممن ابتلي بفقد عزيز من مال أو ولد فلم يتمالك قلبه ولسانه، ولم يكن مؤيدا بمدد إلهي فاستزله الشيطان بسوء ظن بالرب، جل وعلا، حمله على النطق بكلمات كان فيها هلاكه، ومن نظر إلى حال أولئك أصابه من الخوف ما يوقف شعر الجسد أن يكون يوما منهم وقد كان بالأمس يعجب لحالهم ويستنكر صنيعهم ثم هو لذنب خفي قد استدرج بالمكر الإلهي إلى ما قد وقعوا فيه، وسؤال الله، عز وجل، السلامة من مضلات الفتن في زمان الابتلاء اليومي بل الآني الذي نعيشه حتم لازم، ففتن في أمر المعاد وفتن في أمر المعاش، وفتن جليلة، وفتن حقيرة، وفتن عامة في الجماعة المسلمة، وفتنة خاصة في الأهل أو الولد أو النفس , وفتنة في ذوي العصبات والأرحام حتى آثر بل اضطر الكثير إلى الاعتزال طلبا لسلامة القلب من الأحقاد، وفتنة حتى في لعب الكرة: تستباح فيها حرمات المسلمين في خير أيام رب العالمين!. ومن عاش فسيرى عجبا، فذلك مما لا حيلة لنا في دفعه، ولا أهلية لنا لرفعه بإصلاح ذاتِ بينِ المسلمين فلا يكون ذلك إلا لأصحاب الميزان الرباني آنف الذكر: ميزان النبوات النازل ليقوم الناس بالقسط فقام الناس باللفظ دون المعنى، وبالقول دون العمل، فقد وكلنا في غالب شأننا

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير