تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>
مسار الصفحة الحالية:

فالشرع متعلق المحبة به تظهر آثار الحكمة، والكون متعلق المشيئة به تظهر آثار القدرة، فالأول: متعلق فعل المخلوق عبودية، والثاني: متعلق فعل الخالق ربوبية، فإن خلط المكلف بينهما فجعل الكون شرعا، فالمعاصي والفواحش من كونه فلا يبغض العارف فعل الرب، جل وعلا!، وإن كان متعلق الفعل مشيئته العامة التي بها كان الخير والشر خلقا وتكوينا، وهو الذي أمر بشرعه أن يبغض الشر الذي في كونه، فلا يعارض الشرع بالكون إلا من خلط بين أنواع الإرادة، فجعل محبة الرب، جل وعلا، هي عين مشيئته، والصحيح أنها فرع عنها، فمشيئته قد عمت المحبوب والمكروه، فأمر بالمحبوب شرعا، وخلق المكروه كونا ليظهر بخلقه كمال قدرته، وليكون وسيلة إلى تحصيل مصلحة اعظم للعباد، وحكمة أبلغ للرب، جل وعلا، فذلك من رحمته التي لا تظهر آثارها إلا انتهاء لمن صبر واتقى ابتداء.

وعن أولئك الذين خلطوا المحبة بالمشيئة فجعلو الرضا عاما متعلقا بالمشيئة لا خاصا متعلقا بالمحبة يقول ابن تيمية رحمه الله:

"وهؤلاء يؤول بهم الأمر إلى أن لا يفرقوا بين المحظور والمأمور وأولياء الله وأعداء الله والأنبياء والمتقين ويجعلون الذين آمنوا وعملوا الصالحات كالمفسدين في الأرض ويجعلون المتقين كالفجار ويجعلون المسلمين كالمجرمين ويعطلون الأمر والنهي والوعد والوعيد والشرائع.

وربما سموا هذا حقيقة ولعمري إنه حقيقة كونية لكن هذه الحقيقة الكونية قد عرفها عباد الأصنام كما قال تعالى: (ولئن سألتهم من خلق السموات والأرض ليقولن الله)، وقال: (قل لمن الأرض ومن فيها إن كنتم تعلمون سيقولون لله قل أفلا تذكرون).

فالمشركون الذين يعبدون الأصنام كانوا مقرين بأن الله خالق كل شيء وربه ومليكه فمن كان هذا منتهى تحقيقه كان غايته أن يكون كعباد الأصنام.

والمؤمن إنما فارق الكفر بالإيمان بالله وبرسله وبتصديقهم فيما أخبروا وطاعتهم فيما أمروا واتباع ما يرضاه الله ويحبه دون ما يقضيه ويقدره من الكفر والفسوق والعصيان ولكن يرضى بما أصابه من المصائب لا بما فعله من المعايب فهو من الذنوب يستغفر وعلى المصائب يصبر.

كما قال تعالى: (فاصبر إن وعد الله حق واستغفر لذنبك) فيجمع بين طاعة الأمر والصبر على المصائب كما قال تعالى: (وإن تصبروا وتتقوا لا يضركم كيدهم شيئا).

وقال تعالى: (وإن تصبروا وتتقوا فإن ذلك من عزم الأمور).

وقال يوسف عليه السلام: (إنه من يتق ويصبر فإن الله لا يضيع أجر". اهـ

"الاستقامة"، ص376، 377.

فالحقيقة الكونية، كما تقدم، حقيقة عامة لا يحصل بها تمايز بين بر وفاجر، فشهودها: نص في غير محل النزاع إذ هو يعم كل المتنازعين على حد سواء، فكلهم لها خاضع، إذ معنى العبودية العامة: معنى كلي جامع، لا يملك كائن الخروج عنه، بخلاف العبودية الخاصة فهي: معنى خاص يحرر به محل النزاع فيخرج به من حد النجاة عبيد كثير، فلا يبقى إلا العابدون، برسم: (وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ):

فذلك الجعل كوني إذ النبوة اصطفاء لا كسب فيها باجتهاد أو سعي، فوظيفتهم الهداية لغيرهم بعد الاهتداء في أنفسهم إذ أوحينا إليهم فعل الخيرات عموما، وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة خصوصا، فبلغوا رتبة العبودية الخاصة: عبودية العابد الذي جمع بين: الانقياد الكوني فذلك عام له ولغيره والانقياد الشرعي فذلك مما تفرد به، فاستحق وصف العابد، وإن لم ينتف في حقه وصف: العبد.

فاستغفاره من الذنوب متعلق الشرع، وصبره على المقدور متعلق الكون، فلا بد من الرضا وإلا فالصبر على الطاعة امتثالا وعلى المعصية اجتنابا وعلى النازلة احتسابا.

والله أعلى وأعلم.

ـ[مهاجر]ــــــــ[29 - 11 - 2009, 09:52 ص]ـ

ومن أقوال أهل الطريق في هذا المقام الجليل:

قول أبي سليمان الداراني رحمه الله: "إذا سلا العبد عن الشهوات فهو راض وذلك أن العبد إنما يمنعه من الرضا والقناعة طلب نفسه لفضول شهواتها فإذا لم يحصل سخط فإذا سلا عن شهوات نفسه رضي بما قسم الله له من الرزق". اهـ

"الاستقامة"، ص377.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير