تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>
مسار الصفحة الحالية:

والشاهد أن: هذا القول من أبي سليمان غير متوقع مع ما قد علم من حاله وتعظيمه للسنة، فإن ذلك خلاف ما كان عليه النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم فقد سأل الأعرابي عن دعائه في حديث: "كَيْفَ تَقُولُ فِي الصَّلَاةِ قَالَ أَتَشَهَّدُ وَأَقُولُ اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ الْجَنَّةَ وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ النَّارِ أَمَا إِنِّي لَا أُحْسِنُ دَنْدَنَتَكَ وَلَا دَنْدَنَةَ مُعَاذٍ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَوْلَهَا نُدَنْدِنُ"، فتلك أعظم أماني النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، فكيف يكون تمام الرضا في سواها؟!.

يقول ابن تيمية رحمه الله:

"وطلب الجنة والاستعاذة من النار طريق أنبياء الله ورسله وجميع أولياء الله السابقين المقربين وأصحاب اليمين كما في السنن أن النبي صلى الله عليه وسلم سأل بعض أصحابه كيف تقول في دعائك قال: أقول اللهم إني أسألك الجنة وأعوذ بك من النار أما إني لا أحسن دندنتك ولا دندنة معاذ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: حولها ندندن فقد أخبر أنه هو صلى الله عليه وسلم ومعاذ وهو أفضل الأئمة الراتبين بالمدينة في حياة النبي صلى الله عليه وسلم إنما يدندنون حول الجنة أفيكون قول أحد فوق قول رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعاذ ومن يصلي خلفهما من المهاجرين والأنصار".

"الاستقامة"، ص395.

وهل ذلك إلا دعوى عريضة يغلب عليها الطابع التجريدي الذي طبع مقالات زهاد ورهبان الأمم ممن عظموا الروح وحقروا الجسد في منافرة ظاهرة للفطرة التي فطر الله، عز وجل، عليها عباده، فأي نعيم حسي، ولو كان عونا للعبد على تحقيق معاني العبودية من طيب مأكل أو مشرب أو منكح ......... إلخ فهو قادح في كمال فاعله، فلا يكون كمال إلا بترك أسباب الدنيا جملة وتفصيلا، والمكوث في الكهوف والمغارات، والترزق مما يلقيه أهل الصدقات من فضول أموالهم التي هي أوساخ الناس، كما في حديث: "إِنَّ الصَّدَقَةَ لَا تَنْبَغِي لِآلِ مُحَمَّدٍ إِنَّمَا هِيَ أَوْسَاخُ النَّاسِ"، فهي المزيلة لتلك الأوساخ، فإطلاق الأوساخ عليها من باب إطلاق المزال وإرادة المزيل، كما أشار إلى ذلك النووي، رحمه الله، بقوله:

"قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (إِنَّمَا هِيَ أَوْسَاخ النَّاس): تَنْبِيهٌ عَلَى عِلَّة فِي تَحْرِيمهَا عَلَى بَنِي هَاشِم وَبَنِي الْمُطَّلِب، وَأَنَّهَا لِكَرَامَتِهِمْ وَتَنْزِيههمْ عَنْ الْأَوْسَاخ، وَمَعْنَى (أَوْسَاخ النَّاس) أَنَّهَا تَطْهِير لِأَمْوَالِهِمْ وَنُفُوسهمْ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} فَهِيَ كَغَسَّالَةِ الْأَوْسَاخ". اهـ

فلا يقبل الله، عز وجل، إلا طيبا، فلا يتصور أن تكون الصدقات أردأ الأموال، وإنما تكون خيارها فضلا من صاحبها، أو أواسطها عدلا فيه، على حد قول عمر رضي الله عنه لمصدقه: "تعد عليهم بالسخلة يحملها الراعي ولا تأخذها ولا تأخذ الأكولة ولا الربى ولا الماخض ولا فحل الغنم وتأخذ الجذعة والثنية وذلك عدل بين غذاء الغنم وخياره".

يقول ابن تيمية، رحمه الله، في "منهاج السنة"، في معرض ذكر طرف من حال الغلاة من أولئك المنقطعين:

"فهكذا شيوخ الدعاوى والشطح يدعى أحدهم الإلهية وما هو أعظم من النبوة ويعزل الرب عن ربوبيته والنبي عن رسالته ثم آخرته شحاذ يطلب ما يقيته أو خائف يستعين بظالم على دفع مظلمته فيفتقر إلى لقمة ويخاف من كلمة فأين هذا الفقر والذل من دعوى الربوبية المتضمنة للغنى والعز وهذه حال المشركين الذين قال الله فيهم: {ومن يشرك بالله فكأنما خر من السماء فتخطفه الطير أو تهوى به الريح في مكان سحيق} ". اهـ

والشاهد أن ذلك ليس من الرضا في شيء، فإن الرضا أن لا ترضى لنفسك إلا بأرفع المقامات، كما في حديث أبي هريرة، رضي الله عنه، مرفوعا: "إِذَا سَأَلْتُمُ اللَّهَ الجنة فَاسْأَلُوهُ الْفِرْدَوْسَ، فَإِنَّهُ أَعْلَى الْجَنَّةِ وَأَوْسَطُ الْجَنَّةِ وَمِنْهُ تَفَجَّرُ أَنْهَارُ الْجَنَّةِ، وَسَقْفُهَا عَرْشُ الرَّحْمَنِ".

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير