تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>
مسار الصفحة الحالية:

فالعاقل يوفر جند قلبه لمنافسة أسمى، منافسة: (خِتَامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ)، وقد علت همم حتى تعلقت بأسباب السماء وسفلت أخرى حتى تعلقت بأطراف الأرض و: (وَمَا مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقَامٌ مَعْلُومٌ). ولا يرضى المقصر إن كان في قلبه بقية حياة إلا بمدافعة تقصيره بما شرع الرب، جل وعلا، من أسباب الكمال، فلا مناص من الاستعانة بالله، عز وجل، على مداواة النفوس من عللها وبذل أسباب العلاج لعل الله، عز وجل، أن يمن بالعافية فتسلم لنا الأديان ابتداء والأبدان تبعا فإن هذه الشريعة الحنيفية هي التي جاءت بميزان العدل الذي أعطى كل ذي حق حقه، فأعطت الروح التي ظلمها يهود أرباب الشهوات الحسية ومن سار على طريقتهم، أعطتها حقها، وأعطت الجسد الذي أهانه رهبان الأمم من الهنود والترك والفرس والنصارى حقه، فلم يَعِ ذلك كثير من أرباب الطريق لا سيما مع انكباب عامة المكلفين على الشهوات الحسية، وهي سمة يهودية بارزة في الأعصار الحالية، فظنوا النجاة في سلوك طريق الرهبان الأوائل هربا من جحيم الحياة المادية التي قل أن يذكر الله، عز وجل، فيها، فإنها ليس بالمحل الصالح لذلك فلا يضع الرب، جل وعلا، ذكره في محل غير طاهر.

وإنما السداد، كل السداد، أن يختار كل مكلف لنفسه ما يلائمه من أمر الديانة كما يختار لنفسه ما يلائمه من أمر الدنيا، فلا يرضى إلا بأرفع المقامات كما لا يشتهي إلا أجود المطعومات.

ولم يسلم أحد منا من ردود أفعال لما يقع أمامه من أحداث وغالبا ما تخرج عن حد الاعتدال بمقابلة الغلو بجفاء، أو الجفاء بغلو، فذلك مما جبل عليه الإنسان الحساس المتحرك فإنه إلا من رحم الرب، جل وعلا، مفرط في المحبة، مفرط في البغض، فقل أن يعتدل في حال من أحواله، وذلك ما حمل أهل الطريق على احتقار النعيم الحسي ولو في أشرف وأكمل الدور، لما رأوه من انكباب الناس عليه في الدار الأولى، وهو انكباب لا يكون غالبا إلا مع رقة في الديانة يستبيح صاحبها كثيرا من المحرمات تحصيلا لحظ نفس عاجل.

وسؤال الله، عز وجل، الجنة لا يعني انكباب السائل على الشهوات فلا يتصور لذة إلا في مباشرة أسبابها المحسوسة، فإن ذلك نظر من قصر نعيم الجنة على اللذات المحسوسة، فلم يلتفت إلى جملة اللذات النفسية والعلمية التي تكون لساكن دار المقامة، بلغنا الله عز وجل سكناها بفضله وعفا عنا فلم يحرمنا ذلك بعدله، فأين هو من لذة رؤية الرب، جل وعلا، رؤية التنعم بلا إحاطة أو إدراك لكماله، إذ ذلك من المحال بداهة فلا يدرك حس العبد الظاهر كمال الرب الحميد القاهر، فتلك أشرف لذة علمية يحصلها مكلف، ففي الدنيا يكون شرف العلم من شرف المعلوم، فكان التوحيد أشرف العلوم على الإطلاق لتعلقه بأشرف المعلومات وإن لم يتعد مرتبة اليقين، فكيف إذا بلغ مرتبة عين اليقين فرأى العبد ما قام بقلبه من الصور العلمية في دار الابتلاء: حقيقة ظاهرة للعيان في دار الجزاء، فذلك تأويل رؤياه العلمية في الدنيا قد جعلها ربه حقا في الآخرة؟!.

وفي الجنة لذات نفسية، فإن إكرام النساء لأزواجهم في دار الابتلاء أمر عزيز بل يكاد يكون عديما، لا سيما في الأعصار المتأخرة التي استطالت فيها ألسنة كثير من النساء واستطالت أيدي بعضهن في بعض الدول العربية التي أنشأ الرجال فيها جمعيات حقوقية لمناهضة العنف الذي يلقونه من نسائهم فقد وصل إلى نسبة: 10 % وهي نسبة مرشحة للازدياد المطرد لا سيما مع غياب ميزان العدل الإلهي الذي يحكم علاقات الأفراد والجماعات!، وفي الجنة يأمن الإنسان على نفسه من ذلك فإن نساءها عرب كما نص التنزيل يتحببن إلى أزواجهن، وفي ذلك عزاء لكثير من الأزواج فالشدة لا محالة زائلة والفرج لا محالة كائن و: (إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ).

ثم تأت بعد ذلك اللذات الجسدية التي قصر أهل الطريق نعيم الجنة عليها فازدرته نفوسهم، فهم أهل الفناء في محبة الله، عز وجل، لذاته، فلا يشركون معه أحدا!، ولو كان متاعا دنيويا مشروعا أباحه الله، عز وجل، بل ندب إلى جملة منه، بل جعله في بعض الأحايين من الفروض العينية أو الكفائية، أو متاعا أخرويا ندب إلى سؤاله فلم يجد خاتم المرسلين صلى الله عليه وعلى آله وسلم في نفسه حرجا من الإلحاح بسؤال الله، عز وجل، إياه، والأمر كما تقدم: فساد علمي سقى بذرته ما سرى إلى فئام من أهل الإسلام من أحوال عباد الأوثان والصلبان لتي جعل أصحابها تعذيب الجسد وربما إفناءه أسمى المطالب!. ثم لم يلبث الأمر أن تعدى ذلك إلى فساد إرادي صدرت عنه أعمال سطرت على أنها كرامات وهي عند التحقيق: إهانات بل مخازٍ وفضائح، ثم وصل الحال بالمتأخرين كما اطرد من استدراج الشيطان لمن لم يعتصم بالوحي إلى حد الفساد العقدي فظهرت مقالات الحلول والاتحاد فرعا عن الغلو في حب الله، عز وجل، فلم يعد حبا وإجلالا، وإنما صار حبا وتعديا وإساءة أدب، فظهرت مصطلحات من قبيل: العشق وفيه من معاني الإفراط والشهوة وفساد التصور ما فيه، وغلب على أحوال وأقوال المتأخرين الشطط والغلو وادعاء ما ليس لهم من الأحوال التي سرعان ما يظهر للناظر في طريقتهم كذبها وفسادها.

ولا ينفك أي فساد في العمل عن فساد في العلم يغذي كل صاحبه بجملة من المحدثات تصل بصاحبها في آخر أمره، إن لم يتداركه الرب جل وعلا برحمته، إلى حد الخروج عن ناموس الشرع والعقل، والمعصوم من عصمه الرب، جل وعلا، بإلزامه أحكام الشرعة الخاتمة.

والله أعلى وأعلم.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير