ومن تلك الدعاوى المحتملة: دعاوى العزم دون الفعل، فلا يأمن صاحبها من انتقاض عرى همته، فإن النفس في لحظات النشوة قد تتصور خيالا ما تعجز عنه حقيقة، فتتدعي لنفسها، بلسان مقالها أو حالها، من الطاقات ما ليس فيها، فإذا جاء وقت العمل أو الابتلاء ذهب سكرة الخيال وجاءت فكرة الحقيقة، فعمال بل عظماء أزمنة الكسل كثير، والصابرون في أزمنة العافية كثير!، والعقلاء في أزمنة السلم كثير، وعند الشدائد تبلى السرائر، والله، عز وجل، يغفر ما انطوت عليه النفوس من فساد، ويستر ما يظهر من آثاره في الأقوال والأعمال.
يقول ابن تيمية في معرض سرد بعض تلك الدعاوى وما حل بمدعيها من انتقاض الهمم والافتضاح على الملأ:
"والكتب المسندة في أخبار هؤلاء المشايخ وكلامهم مثل كتاب حلية الأولياء لأبي نعيم وطبقات الصوفية للشيخ أبي عبد الرحمن وصفوة الصفوة لابن الجوزي وأمثال ذلك لم يذكروا فيها هذه الكلمة عن الشيخ أبي سليمان، (وهي قوله: "الرضا أن لا تسأل الله الجنة ولا تستعيذه من النار")، وقد ذكروا فيها عن الشيخ أبي سليمان الأثر الذي رواه عنه مسندا حيث قال لأحمد بن أبي الحواري: "يا أحمد لقد أوتيت من الرضا نصيبا لو ألقاني في النار لكنت بذلك راضيا".
فهذا الكلام مأثور عن أبي سليمان بالإسناد ولهذا أسنده عنه القشيري من طريق شيخه أبي عبد الرحمن بخلاف تلك الكلمة فإنها لم تسند عنه فلا أصل لها عن الشيخ أبي سليمان ثم إن القشيري قرن هذه الكلمة الثابتة عن أبي سليمان بكلمة أحسن منها فإنه قبل أن يرويها قال وسئل أبو عثمان يعني أبا عثمان الحيري النيسابوري عن قول النبي صلى الله عليه وسلم: "أسألك الرضا بعد القضاء" فقال لأن الرضا بعد القضاء هو الرضا فهذا الذي قاله الشيخ أبو عثمان كلام حسن سديد.
ثم أسند بعد هذا عن الشيخ أبي سليمان أنه قال: أرجو أن أكون عرفت طرفا من الرضا لو أنه أدخلني النار لكنت بذلك راضيا.
فتبين بذلك أن ما قاله أبو سليمان ليس هو رضى وإنما هو عزم على الرضا وإنما الرضا ما يكون بعد القضاء وإذا كان هذا عزما على الرضا فالعزم قد يدوم وقد ينفسخ وما أكثر انفساخ عزائم الناس خصوصا الصوفية ولهذا قيل لبعضهم بم عرفت الله قال: بفسخ العزائم ونقض الهمم
وقد قال تعالى لمن هو أفضل من هؤلاء المشايخ: (ولقد كنتم تمنون الموت من قبل أن تلقوه فقد رأيتموه وأنتم تنظرون). وقال تعالى: (يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون كبر مقتا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون إن الله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفا كأنهم بنيان مرصوص).
وفي الترمذي أن بعض الصحابة قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: لو علمنا أي العمل أحب إلى الله لعملناه فأنزل الله هذه الآية.
وقد قال تعالى: (ألم تر إلى الذين قيل لهم كفوا أيديكم وأقيموا الصلاة وأتوا الزكاة فلما كتب عليهم القتال إذا فريق منهم يخشون الناس كخشية الله أو أشد خشية وقالوا ربنا لم كتبت علينا القتال لولا أخرتنا إلى أجل قريب).
فهؤلاء الذين كانوا قد عزموا على الجهاد وأحبوه لما ابتلوا به كرهوه وفروا منه وأين ألم الجهاد من ألم النار وعذاب الله الذي لا طاقة لأحد به.
مثل هذا يذكر عن سمنون المحب أنه كان يقول:
وليس لي في سواك حظ ******* فكيف ما شئت فاختبرني
فأخذه الأسر من ساعته أي حصر بوله فكان يدور على المكاتب ويفرق الجوز على الصبيان ويقول: ادعوا لعمكم الكذاب!
وحكى أبو نعيم الأصبهاني عن أبي بكر الواسطي أنه قال: قال سمنون: يا رب قد رضيت بكل ما تقضيه علي فاحتبس بوله أربعة عشر يوما فكان يتلوى كما تتلوى الحية على الرمل يتلوى يمينا وشمالا فلما أطلق بوله قال يا رب تبت إليك". اهـ
"الاستقامة"، ص380 _ 382.
ويقول في موضع تال:
"ويشبه والله أعلم أن أبا سليمان لما قال هذه الكلمة لو القاني في النار لكنت بذلك راضيا ان يكون بعض الناس حكاه بما فهمه من المعنى انه قال الرضا ان لا تسأل الله الجنة ولا تستعيذه من النار
¥