تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>
مسار الصفحة الحالية:

وتلك الكلمة التي قالها أبو سليمان، رحمه الله، مع أنها لا تدل على رضاه بذلك ولكن تدل على عزمه بالرضا بذلك ونحن نعلم أن ذلك العزم لا يستمر بل ينفسخ وأن مثل هذه الكلمة كان تركها أحسن من قولها وأنها مستدركة كما استدرك دعوى سمنون ورويم وغير ذلك فإن بين هذه الكلمة وبين تلك فرقا عظيما فإن تلك الكلمة مضمونها أن من سأل الله الجنة واستعاذه من النار لا يكون راضيا وفرق بين من يقول: أنا إذا فعل بي كذا كنت راضيا وبين من يقول لا يكون راضيا إلا من لا يطلب خيرا ومن لا يهرب من شر". اهـ

"الاستقامة"، ص385.

ففرق بين الرضا وهو الذي طلبه النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، فحاله في إظهار الافتقار إلى الله، عز وجل، وطلب الرضا منه بعد وقوع القضاء الذي لا راد له أكمل الأحوال، وحال من ادعى الرضا قبل وقوعه، لعارض إيماني أو وجداني انتابه فظن آنذاك أنه قادر على تحمل أي ابتلاء وراض بأي قضاء، فإن من ذلك حاله فإنه غالبا ما يبتلى فلا يصبر، إذ قد وكله الله، عز وجل، إلى نفسه، فإنه أظهر بلسان المقال أو الحال أنه مستغن بها، مكتف بما أودع فيها من قوى إرادية وفعلية، فسيصل إلى مراده دون استحضار مقام: "إباك نستعين"، فهو من أصحاب القوى التي يباشر بها الأسباب بكفاءة، سواء أكانت: أسبابا كونية، فذلك في أهل الدنيا أظهر، فغالبا ما ينشغل أصحابها بالأسباب عن ربها المجري لها، فعقليتهم عملية محضة لا تعتبر أي عامل غيبي، فلا اعتبار إلا للأسباب المشهودة، وذلك أمر ظاهر في المجتمعات التي غلب عليها الطابع العلماني النفعي الذي ينظر إلى الثمرة المحسوسة فلا يباشر عملا إلا إرادةَ تحصيل ثمرته عاجلة، أو: كانت أسبابا شرعية، وهو الغالب على أهل القدر الذين ينكرون مشيئة الرب، جل وعلا، وقوع الأفعال، فيكلون ما هم عليه من طاعة إلى أنفسهم فلهم من مقام: "إياك نعبد" نصيب، وليس لهم من مقام: "إياك نستعين" نصيب، فلسان حالهم: نعبدك ولكن بحولنا لا حولك!، فعندنا من القوى ما يغنينا عن طلب المدد منك، فيوكلون، كما أرادوا إلى أنفسهم، فيظهر من انفساخ هممهم ما يفضح ضعفهم وعجزهم، ومثلهم أرباب الطريق الذين غلوا في شهود مقامات المحبة والرضا، فظنوا الصبر والرضا على أي ابتلاء فتعرضوا له، بل طلبوه طلب الذي لا يعلم العاقبة، فلما وقع كان ما كان منهم من الجزع وقلة الصبر، وتلك الفضيحة التي تجعلك بين مشفق وشامت، فلا أصعب على النفس من نظرة كليهما، ولا أكمل حالا لها من الستر في الدنيا والآخرة، فلا يكون لأحد عليها يد، إذ قد استغنت بالرب، جل وعلا، عمن سواه، وهي مع ذلك لا تحجب خيرا إذا سئلت ما تقدر على بذله من سبب دين أو دنيا، بلا من أو استعلاء، بل العاقل من يبذل لإخوانه من نفسه دون أن يتلفها، فإن من الناس من يتفانى في إرضاء من حوله، وتكون نيته ابتداء صحيحة، فيحمله الشيطان بوسواسه على أن يقدم جقوق العباد على حقوق الرب، عز وجل، فيما لا يجوز فيه التقديم من أمر الدين، فلو كانت دنيا لبذلت فحق العبد فيها مقدم إجمالا لوقوع المشاحة التي هي مئنة من الافتقار بخلاف حقوق الرب، جل وعلا، القائمة على المسامحة لكمال استغنائه عن عباده، وإنما يبذل الإنسان لإخوانه ما لم يمس دينه، فإن مس بأذى فهو المقدم المنتصر له على حد الإطلاق، فمن لا يجد صلاح قلبه إلا في العزلة برسم الشريعة لا برسم الوساوس الإبليسية فله أن يعتزل، ولا ينفك ذلك غالبا عن نوع تقصير في حقوق الآخرين لا يسلم منه إلا من عصم الرب، جل وعلا، فأحسن القياس بميزان العدل في كل شأنه الديني والدنيوي، ومن لا يجد صلاح قلبه إلا في الخلطة برسم الشريعة فيملك جمع جند قلبه وإن توالت عليه أسباب التشتيت والتفريق من الشواغل والصوارف فله أن يختلط بإخوانه باذلا لهم من نفسه ما يرضي الرب، جل وعلا، عنه، وغالبا ما يكون الأولون من أصحاب القوى اللازمة التي لا يظهر أثرها في غير محلها فإن ظهر فتبعا، وغالبا ما يكون الآخرون من أصحاب القوى العملية التي يظهر أثرها في غيرها، ولكل نفس ما يلائمها من العلوم والإرادات والأعمال، فالشرع الحنيف قد استوعب أجناس الصالحات وجعل لكل نفس منها ما يلائمها فهي كالمطعومات أو الأدوية النافعة متى صادفت محلا ملائما ظهر أثرها النافع من قوة للبدن أو شفاء للداء، وأشرف أجناس الغذاء والدواء النفساني ما جاءت به النبوات، فقد جعل الله، عز وجل، فيها من الأسباب ما يزيد الأرواح قوة ويذهب عنها كدر الهم والحزن، فتنشرح وإن ضاقت الدنيا، وبقدر التضلع منها يكون الإحساس بتلك المعاني الجليلة التي يسهل جريانها على الألسنة ويشق حملها على الأفئدة.

وأكمل الأحوال ما استحضر فيه العبد مقامي: العبادة والاستعانة، فيوقع الأولى بمدد الثانية ولا تكون استعانة في الديانة إلا على الرب، جل وعلا، فلا يدعي لنفسه حالا، وإما يبذل السبب برسم التوكل، والدخول على الرب، جل وعلا، يستلزم الذل والانكسار، لا الإدلال بالطاعة أو بسط الدعاوى بسط من يستعرض عضلاته ليري من أمامه قوته وبأسه!.

وهذا الفضيل، رحمه الله، كما ذكر الشيخ لم يكن صاحب دعوى، فلما أصيب بعارض كوني بذل المحبة رجاء زواله مع أنه لم يرده ابتداء كما أراده أولئك، فحري بمن ادعى أن يحذر إذ وقع ما وقع لأمثال الفضيل، رحمه الله، مع أنه لم يدع ما ادعى، فأي الفريقين أحق بالحذر من مكر الرب، جل وعلا، وقدرته النافذة على تقليب القلوب وحل عرى العزائم وفسخ عقود العزائم.

والله أعلى وأعلم.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير