"فقول القائل: الرضا أن لا تسأل الله الجنة ولا تستعيذه من النار إن أراد بذلك أن لا تسأل الله ما هو داخل في مسمى الجنة الشرعية فلا تسأله النظر إليه ولا غير ذلك مما هو مطلوب جميع الأنبياء والأولياء وأنك لا تستعيذ به لا من احتجابه عنك ولا من تعذيبك في النار فهذا الكلام مع كونه مخالفا لجميع الأنبياء والمرسلين وسائر المؤمنين فهو متناقض في نفسه فاسد في صريح المعقول .......... وإن أراد بذلك أن لا يسأل التمتع بالمخلوق بل يسأل ما هو أعلى من ذلك فقد غلط من وجهين: من جهة أنه لم يجعل ذلك المطلوب من الجنة وهو أعلى نعيم الجنة ومن جهة أنه أيضا أثبت أنه طالب مع كونه راضيا فإذا كان الرضا لا ينافي هذا الطلب فلا ينافي طلبا آخر إذا كان محتاجا إلى مطلوبه.
ومعلوم أن تنعمه بالنظر لا يتم إلا بسلامته من النار وبتنعمه من الجنة بما هو دون النظر وما لا يتم المطلوب إلا به فهو مطلوب فيكون طلبه للنظر طلبا للوازمه التي منها النجاة من النار فيكون رضاه لا ينافي طلب حصول المنفعة ولا دفع المضرة عنه ولا طلب حصول الجنة ودفع النار ولا غيرهما مما هو من لوازم النظر فتبين تناقض قوله.
وأيضا فإذا لم يسأل الله الجنة ولم يستعذ به من النار فإما أن يطلب من الله ما هو دون ذلك مما يحتاج إليه من جلب منفعة ودفع مضرة وإما أن لا يطلبه فإن طلب ما هو دون ذلك واستعاذ مما هو دون ذلك فطلبه للجنة أولى واستعاذته من النار أولى.
وإن كان الرضا أن لا يطلب شيئا قط ولو كان مضطرا إليه ولا يستعيذ من شيء قط ولو كان مضرا به فلا يخلو إما أن يكون ملتفتا بقلبه إلى الله في أن يفعل به ذلك وإما أن يكون معرضا عن ذلك فإن التفت بقلبه إلى الله فهو طالب مستعيذ بحاله.
ولا فرق بين الطلب بالحال والقال بل هو بهما أكمل وأتم فلا يعدل عنه وإن كان معرضا عن جميع ذلك فمن المعلوم أنه لا يحيا ويبقى إلا بما يقيم حياته ويدفع مضاره فذلك الذي به يحيا من طلب جلب المنافع ودفع المضار إما أن يحبه ويطلبه ويريده من أحد أو لا يحبه ولا يطلبه ولا يريده:
فإن أحبه وطلبه وأراده من غير الله كان مشركا مذموما فضلا على أن يكون محمودا، (فهو طالب لا محالة فإن لم يطلب من الله، عز وجل فسيطلب من غيره فذلك فرع عن افتقاره، إذ الفقر وصف ذات لازم له أبدا فإن لم يفتقر إلى الله، عز وجل، وذلك أشرف أجناس الفقر، افتقر إلى سواه، وذلك أخس أجناس الفقر، فلا ينفك عن التلبس بالوصف، إما شريفا وإما خسيسا).
وإن قال: لا أحبه ولا أطلبه ولا أريده لا من الله ولا من خلقه.
قيل: هذا ممتنع في الحي فإن الحي يمتنع عليه أن لا يحب ما به يبقى وهذا أمر معلوم بالحس ومن كان بهذه المثابة امتنع أن يوصف بالرضا فإن الراضي موصوف بحب وإرادة خاصة إذ الرضا مستلزم لذلك فكيف يسلب عنه ذلك كله؟.
فهذا وأمثاله مما يبين فساد هذا الكلام في العقل". اهـ
بتصرف واسع من: "الاستقامة"، ص398_400.
فهو لا ينفك عن الطلب، إذ ذلك أمر لا ينفك عن الحي الحساس المتحرك الذي يستجلب دائما ما ينفعه ويستدفع ما يضره، وإن ادعى الرضا فلا يتصور رضا إلا بنيل مطلوب عَظُم أو حَقُر، والجمع بين أجناس اللذة في دار المقامة لا ينافي الرضا، إذ الرضا يتسع لكل، فيرضى الإنسان إذا نال الكرامة العلمية برؤية رب البرية، جل وعلا، ويرضى إذا نال الكرامة النفسية، ويرضى إذا نال الكرامة الجسدية، فمعنى الرضا الكلي يقبل الانقسام فيحتمل كل تلك المعاني الجزئية لإمكان الجمع بينها إذ لا تعارض بينها.
فإذا كان يطلب الطعام إذا جاع والماء إذا ظمأ، وهو مع ذلك راض فلم يُرْمَ بالسخط إذ طلب ما يحتاجه وإنما تكون المذمة لمن طلب ما لا يحتاجه فضولا لا ينتفع به بل هو عليه عبء، إذا كان كذلك: فما باله لا يطلب الجنة أعلى وأشرف المطلوبات الإنسانية التي عقد لها الموحدون ألوية جهاد النفس والشيطان والأعداء من بني الإنسان، ولو ادعى مطلوبا أعظم فإنه لا يكون إلا بعد دخوله الجنة فهو لا ينفك عن طلبها، وإن ادعى أنه لا يريدها لذاتها، فما ادعاه من رضا الرب، جل وعلا، لا يكون إلا في الجنة، فليس ثم رضا من الرب، جل وعلا، إلا فيها: (قَالَ اللَّهُ هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا
¥