تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>
مسار الصفحة الحالية:

المتضادات التي تتباين أحكامها الشرعية تبعا لتباين أوصافها طيبا أو خبثا، فقد انتفى وصف الخبث عن كل الكائنات إذ قد صارت الإرادة واحدة لا تنقسم إلى شرعية تحب، وكونية لا تحب إلا إذا وافقت الشرع المنزل، فالتسوية بين معاني الإرادة، أو التسوية بين المحبة والإرادة الكونية، أو التسوية بين المحبة والمشيئة العامة هو ما أفسد تصور أولئك السالكين لمعنى الرضا، فهو معنى شرعي خالص، لا يكون متعلقه إلا مرادا محبوبا للرب، جل وعلا، فإنه: (لا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ)، فإذا شاء وقوعه لم يكن ذلك مئنة من رضاه به، بل هو يسخطه ويبغضه لمخالفته الشرع الذي هو متعلق رضاه، فلم تدخل المعصية في حد الطاعة لترضى بداهة، بل هي على الضد منها فيثبت لها ضد حكمها، بمقتضى قياس العكس، فإن تعلق الرضا بالطاعة منطوقا يعني بداهة تعلق السخط بالمعصية مفهوما، فالتسوية بين الأفعال وإن اختلفت حسنا وقبحا لمجرد تعلقها بالمشيئة الربانية العامة التي لا يكون كائن إلا بها، تلك التسوية مما ينقض قياس العقل الصريح، وهو ما وقع فيه أولئك السالكون لغلوهم في جانب الربوبية وجفائهم في جانب الألوهية، وهو الذي صير الرضا عندهم أيضا: معنى واحدا يتعلق بكل موجود، إذ قد صيروا الإرادة الشرعية ابتداء معنى واحدا يتعلق بكل موجود حسن أو قبح، وتلك من المواضع التي يظهر فيها ما تقدم ذكره مرارا من ملاءمة هذا الدين لصريح المعقول، فإنك لا تجد العقل الصريح في مسألة علمية أو عملية إلا وزير صدق يشد من أزر النقل الصحيح.

يقول ابن تيمية، رحمه الله، في معرض بيان ضلال أولئك، فقد غلطوا من جهة:

"ظنهم أن الرضا بكل ما يكون: أمرٌ يحبه الله ويرضاه وأن هذا من أعظم طرق أولياء الله فجعلوا الرضا بكل حادث وكائن أو بكل حال يكون فيها العبد طريقا إلى الله فضلوا ضلالا مبينا الطريقَ إلى الله إنما هي أن ترضيه بأن تفعل ما يحبه ويرضاه لا أن ترضى بكل ما يحدث ويكون فإنه هو لم يأمرك بذلك ولا رضيه لك ولا أحبه بل هو سبحانه يكره ويسخط ويبغض على أعيان أو أفعال موجودة لا يحصيها إلا هو.

وولاية الله موافقته بأن تحب ما يحب وتبغض ما يبغض وتكره ما يكره وتسخط ما يسخط وتوالي من يوالي وتعادي من يعادي فإذا كنت تحب وترضى ما يسخطه ويكرهه كنت عدوه لا وليه وكان كل ذم نال من رضي ما أسخط الله قد نالك فتدبر هذا فإنه تنبيه على أصل عظيم ضل فيه من طوائف النساك والصوفية والعباد والعامة من لا يحصيهم إلا الله". اهـ

"الاستقامة"، ص405.

فليس كل مرضي للعبد يكون مرضيا للرب، جل وعلا، فإن كثيرا من مرادات البشر، هي من الفساد بمكان، فبعضهم لا يرضى إلا بالكفر في نفسه لازما، وفي غيره متعديا، ولو حمله عليه بحد السيف، كما يجري لكل المضطهدين في سائر الأعصار والأمصار، فلا يخلو زمان عن مكره على الكفر لا يملك قوة لرفعه فهو من أهل: (لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آَوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ)، وما أكثرهم في زماننا وقد قعدنا عن نصرتهم حتى في مجتمعاتنا ذات الغالبية الإسلامية العظمى!، وبعضهم على الضد من ذلك لا يرضى إلا بظهور أعلام الرسالة فلا حظ له في نفسه، إذ قد صير التوحيد مناط ولائه وبرائه فلا يوالي ولا يعادي إلا له، فكلاهما مرضي لصاحبه، وليس الأمر كذلك للرب، جل وعلا، فلا يسوي بين المختلفين إذ ذلك ناقض لناموس شرعه الحاكم، وفعله الكوني لا ينقض حكمه الشرعي، إذ كلاهما منه، جل وعلا، قد صدرا، فلا يتصور التناقض إلا في ذهن من عارض الشرع بالقدر، فبارز حكمة الرب، جل وعلا، بقدرته، وكلاهما من أوصاف كماله، فالأول من جماله، والثاني من جلاله، والجمع بينهما هو عين الكمال الذي اتصف به ربنا، عز وجل، أزلا وأبدا، فذلك أمر يطرد في كل أفعال العباد فليست كلها على حد سواء بل لا بد أن يكون لله، عز وجل، فيها حكم شرعي يكون سببا في فعل رباني، فيتكامل الشرع والقدر في صفات الرب، جل وعلا، الفعلية المتعلقة بمشيئته التي يحدث من آحادها ما شاء بوجود سببها، فيحدث من آحاد صفة الرضا الأزلية النوع ما يقابل سببه من فعل ما يرضيه من الطاعات فإذا أطاع العبد: أحبه الله، عز وجل، وإذا أحبه رضي عنه، وإذا رضي عنه، فقد نجا، فتلك متوالية عقلية بدهية،

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير