اعلم، يا أمير المؤمنين، أني من العرب العرباء، أبيت في منزل البادية، وأصيح على أسود السنين العادية، فأقبلت إلى ظاهر هذا البلد بالأهل والمال والولد، فأفضت بي بعضطرائقها، إلى المسير بين حدائقها، بنياق حبيبات إلي، عزيزات علي، بينهن فحل كريم الأصل، كثير النسل، مليح الشكل، حسن النتاج، يمشي بينهن كأنه ملك عليه تاج. فدنت بعض النوق إلى حديقة قد ظهر من الحائط شجرها، فتناولته بمشفرها، فطردتها من تلك الحديقة. فإذا شيخ قد زمجر، وزفر، وتسور الحائط، وظهر وفي يده اليمنى حجر، يتهادى كالليث إذا خطر، فضرب الفحل بذلك الحجر، فقتله وأصاب مقتله. فلما رأيت الفحل قد سقط لجنبه وانقلب، توقدت في جمراتُ الغضب، فتناولت ذلك الحجر بعينه، فضربته بت، فكان سبب حينه، ولقي سوء منقلبه، والمرء مقتولٌ بما قتل به بعد أن صاح صيحة عظيمة، وصرخ صرخة أليمة فأسرعت من مكاني فلم يكن بأسرع من هذين الشابين، فأمسكاني وأحضراني كما تراني. فقال عمر: قد اعترفت بما اقترفت، وتعذر الخلاص، ووجب القصاص، ولات حين مناص.
فقال الشاب: سمعًا لما حكم به الإمام، ورضيت بما اقتضته شريعة الإسلام، لكن لي أخ صغير، كان له أب كبير، خصه قبل وفاته بمالٍ جزيل، وذهب جليل، وأحضره بين يدي، وأسلم أمره إلي، وأشهد الله علي، وقال: هذا لأخيك عندك، فاحفظه جهدك، فاتخذت لذلك مدفنًا، ووضعته فيه، ولا يعلم به إلا أنا، فإن حكمت الآن بقتلي، ذهب الذهب،
وكنت أنت السبب، وطالبك الصغير بحقه، يوم يقضي الله بين خلقه، وإن أنظرتني ثلاثة أيام، أقمتُ من يتولى أمر الغلام، وعدت وافيًا بالذمام، ولي من يضمنني على هذا الكلام.
فأطرق عمر، ثم نظر إلى من حضر، وقال: من يقوم على ضمانهِ والعود إلى مكانه؟
قال: فنظر الغلام إلى وجوه أهل المجلس الناظرين، وأشار إلى أبي ذَرّ دون الحاضرين، وقال: هذا يكفلني ويضمنني!
قال عمر: يا أبا ذر، تضمنه على هذا الكلام؟
قال: نعم، أضمنه إلى ثلاثة أيام.
فرضي الشابان بضمانة أبي ذرّ وأنظراه ذلك القدر. فلما انقضت مدة الإمهال وكاد وقتها يزول أو قد زال، حضر الشابان إلى مجلس عمر والصحابة حوله كالنجوم حول القمر، وأبو ذرّ قد حضر والخصم ينتظر. فقالا: أين الغريم يا أبا ذرّ؟ كيف يرجع من فر، لا تبرح من مكاننا حتى تفي بضماننا!
فقال أبو ذَرّ: وحق الملك العلام، إن انقضى تمام الأيام، ولم يحضر الغلام، وفيت بالضمان وأسلمت نفسي، وبالله المستعان.
فقال عمر: والله، إن تأخر الغلام، لأُمْضِيَنَّ في أبي ذرّ، ما اقتضته شريعة الإسلام.
فهمت عبرات الناظرين إليه، وعلت زفرات الحاضرين عليه، وعظم الضجيج وتزايد النشيج، فعرض كبار الصحابة على الشابين أخذ الدية، فأصرا على عدم القبول، وأبيا إلا الأخذ بثأر المقتول.
فبينما الناس يموجون تلهفًا لما مر، ويضجون تأسفًا على أبي ذرّ، إذ أقبل الغلام ووقف بين يدي الإمام وسلم عليه أتم السلام، ووجهه يتهلل مشرقًا ويتكلل عرقًا وقال: قد أسلمت الصبي إلى أخواله، وعرفتهم بخفي أمواله وأطلعتهم على مكان ماله. ثم اقتحمت هاجرات الحَر، ووفيت وفاء الحُر.
فعجب الناس من صدقه ووفائه، وإقدامه على الموت واجترائه.
فقال: من غدر لم يعفُ عنه من قدر، ومن وفى، رحمه الطالب وعفا، وتحققتُ أن الموت إذا حضر، لم ينج منه احتراس، كيلا يقال: ذهب الوفاء من الناس.
فقال أبو ذَرّ: والله، يا أمير المؤمنين، لقد ضمنت هذا الغلام، ولم أعرفه من أي قوم، ولا رأيته قبل ذلك اليوم، ولكنْ نظر إلي دون من حضر فقصدني وقال: هذا يضمنني، فلم أستحسن رده، وأبتِ المروءةُ أن تخيِّب قصدَه، إذ ليس في إجابة القاصد من بأس، كيلا يقال: ذهب الفضل من الناس.
فقال الشابان عند ذلك: يا أمير المؤمنين، قد وهبنا هذا الغلام دمَ أبينا، فبدِّل وحشته بإيناس، كيلا يقال: ذهب المعروف من الناس.
فاستبشر الإمام بالعفو عن الغلام وصدقه ووفائه، و مروءة أبي ذرّ دون جلسائه، واستحسن اعتماد الشابين في اصطناع المعروف، وأثنى عليهما أحسن ثنائه. وتمثل بهذا البيت:
من يصنعِ الخيرَ لم يعدم جوازيَهُ ... لا يذهبُ العُرْفُ بينَ اللهِ والناسِ
ثم عرض عليهما أن يصرف من بيت المال دية أبيهما، فقالا: إنما عفونا ابتغاء وجه ربنا الكريم، ومن نيته هكذا لا يتبع إحسانه منًا ولا أذى. قال الراوي: فأثبتها في ديوان الغرائب، وسطرتها في عنوان العجائب.
(المصدر: إعلام الناس بما وقع للبرامكة، للإتليدي).
.
.
تَلذَُّ له المروءةُ وهي تؤذي ... وَمنْ يعشقْ يَلَذُّ لهُ الغرامُ!
.
وبانتظار مساهماتِكم القيّمة.:)
ـ[زهرة متفائلة]ــــــــ[27 - 10 - 2010, 01:17 ص]ـ
الحمدلله والصلاة والسلام على رسول الله ... أما بعد:
أختي الحبيبة: العقد الفريد
موضوع رائع، وطرح جميل، أنتظر معك مساهمات الآخرين، ليس عندي ما أضيفه (ولكني استفدتُ من نافذتك القيمة هذه)، كتب الله لكِ الأجر والمثوبة، وجعله الله في موازين حسناتك يوم تلقينه /اللهم آمين
ودمت ِ دائما متألقة
¥