وكان أكبر أولئك في رئاسة أحد الأقسام الشرعية في إحدى الجامعات، وكان ذا فضل، وعلم، وجاه، وبرٍّ بوالده، وكان يرافق والده في المستشفى، ولا يخرج إلاّ وقت العمل ثم يعود إليه، فيمكث عنده أطول فترة ممكنة.
ولفت نظري في تلك الزيارة أن ذلك الابن جاء إلى والده ونحن عنده، وكان والده جالسًا على الكرسي متحاملًا على نفسه؛ فلما شاهد ابنه مقبلًا نهض من كرسيه، وقام يستقبله، فسلم الابن على والده، وقبَّل رأسه، ثم جلسا؛ فتعجبت من ذلك الموقف؛ كيف يقوم الوالد لولده وهو في تلك الحال من الإعياء والمرض؟
فقلت في نفسي: لعله غاب عنه فترة، أو لعله قدم من سفر، فسألت أحد الحاضرين، وقلت له: هل قدم فلان من سفر؟ قال: لا، بل كان قبل ساعتين عند والده، فزاد عجبي، وظل ذلك التساؤل قائمًا في نفسي مدة تزيد على عشر سنين.
ثم يسر الله زيارة لأبناء ذلك العالم، وبعد أن دار الحديث، وطال، وتشعَّب همست في أذن ذلك الابن الفاضل العالم، وقلت له: أتسمح لي بسؤال قد يكون غريبًا عليك، وقد يكون فيه شيء من التطفل، ولك الخيار في الجواب من عدمه؟
فقال لي بأريحية وكرم: تفضَّل، وسَلْ ما بدا لك.
فذكرت له ذلك الموقف، وقلت: إنه في نفسي من ذلك الحين، فسكت برهة، وكادت تدمع عينه، وقال: هكذا يريد والدي، وقد حاولت مرارًا ألاّ يفعل، فلما رأيت إصراره، وأن راحته في ذلك تركته وشأنه.
فانظر إلى هذا النبل من ذلك الوالد العالم الذي بلغ به التقدير والاعتراف ذلك المبلغ، ولا أظن أن الأمر يقف عند هذا الحد، بل ربما يكون هناك مواقف أخرى ربما تزيد على ذلك الموقف.
هذا وإن من أعظم ما تتجلى به صفة الاعتراف للمحسن بإحسانه: أن يكون بينك وبين أحدٍ خصومةٌ، فلا يمنعك ذلك من أن تُقِرَّ له بالفضل؛ فإقرارك بالحسن من صفات خصمك دليل على مروءتك، ونبلك، وإنصافك.
وإذا لم ينصفك الرجل فردّ عليك الحق بالشمال واليمين، أو جحد جانبًا من فضلك وهو يراه رأي العين، فلا تكن قلة إنصافه حاملة لك على أن تقابله بالعناد، فتردّ عليه حقًا، أو تجحد له فضلًا، واحترسْ من أن تسري لك من خصومك عدوى هذا الخلق الممقوت، فيلج في نفسك، وينشط له لسانك أو قلمك، وأنت تحسبه من محاربة الخصوم بمثل سلاحهم.
كلا! لا يحاربُ الرجل خصومه بمثل الاعتصام بالفضيلة، ولا سيما فضيلة كفضيلة الإنصاف؛ فهي تدل على نفس مطمئنة، وهمة عالية، ونظر في العواقب بعيد.
ولئن كان الإنصاف جميلًا فلهو مع الأقران أجمل وأجمل! ذلك أن الرجل يسهل عليه أن ينصف من هو أكبر منه سنًا أكثر مما يسهل عليه أن ينصف أقرانه؛ ذلك لأن أكبر عائق عن الإنصاف التحاسد؛ فحسد الإنسان لأقرانه أكبر وأشد من حسده للمتقدمين عليه في السن.
بل يسهل عليه أن ينصف أقرانه أكثر مما يسهل عليه أن ينصف من هو أحدث سنًا منه؛ إذ يسبق إلى ظنه أن ظهورَ مزيةٍ لمن هو أحدث عهدًا منه قد تفضي إلى أن يكون ذكرُه أرفعَ.
وفضلُ القرين على بعض أقرانه شائعٌ أكثر من فضل المتأخر على المتقدم؛ وشيوع الشيء يجعله أهونَ على النفس مما هو أقل شيوعًا منه؛ فإذا أنصف المرء من هو أحدث سنًا منه دل ذلك على كرم نفسه، وشرف همته، وتناهي فضله.
ذكر ابن الجوزي في صفة الصفوة 2/ 143 عن عمر بن سعيد عن أمه قالت: "قدم ابن عمر مكة، فسألوه، فقال: أتجمعون لي يا أهلَ مكة المسائل وفيكم ابن رباح ـ يعني عطاءً ـ "!
فابن عمر ـ رضي الله عنه ـ كان صحابيًا وعطاء ـ رحمه الله ـ كان تابعيًا، ومع ذلك لم يجد ابن عمر غضاضة أو حرجًا من إنصاف عطاء، والاعتراف له بالفضل.
فينبغي للإنسان أن يتيقظ للأحوال التي تتقوى فيها داعيةُ العناد، ويعد للوقوف عند حدود الإنصاف، ومقاومة تلك الداعية ما استطاع من قوة.
كذلك قد لا يصعب على الرجل أن ينصف قريبًا أو صديقًا، بل قد لا يصعب عليه أن ينصف مَنْ لا تربطه به قرابة، أو صداقة، ولا تبعده منه عداوة.
والإنصاف الذي قد يحتاج فيه إلى مراوضة النفس كثيرًا أو قليلًا: هو أن يبدي بعض أعدائه رأيًا سديدًا، أو يناقشه في رأي مناقشة صائبة؛ فهذا موطنُ تذكير النفس بأدبِ الإنصاف، وإنذارها ما يترتب على العناد من إثمٍ وفساد.
قال تعالى: (وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى). [المائدة: 8].
ومن الإنصاف الذي يدل على الرسوخ في الفضيلة أن يتحدث الرجل عن خصمه، فينسب إليه ما يعرفه من فضل.
أَنْشَد رجلٌ في مجلس أميرِ المؤمنين عليِّ بن أبي طالب ـ رضي الله عنه ـ قول الشاعر:
فتىً كان يُدْنِيْهِ الغِنى من صديقِهِ ... إذا ما هو استغنى ويُبْعِدُهُ الفقرُ
كأنّ الثُّريا عُلّقت بجبينِهِ ... وفي خدِّهِ الشعرى وفي الآخرِ البدرُ!
فلما سمعها علي ـ رضي الله عنه ـ قال: هذا طلحةُ بنُ عبيدِ اللَّه، وكان السيفُ ليلَتَئِذٍ مجرَّدًا بينهما!!
فانظر إلى عظمة الإنصاف، وجمال الحق، وكبر النفس!
وبهذا يتبيَّن لك أن الاعتراف للمحسن معدودٌ في أمهاتِ الفضائل.
انتهى
.
.
العِلْمُ كُلُّ الْعِلْمِ إِنْصافُ الْفَتَى ... وَبِهِ أَتَى النَّصُّ الصَّرِيحُ الشائِعُ
والْحَقُّ أَبْلَجُ والدَّليلُ مُحْكَّمٌ ... والْكُلُّ مِنْ نَهْرِ النُّبُوَّةِ كارِعُ
مَنْ كان قُدْوَتَهُ مَقَالُ مُحمَّدٍ ... فَهْوَ الضِّليعُ ومَنْ عَداهُ الضَّالِعُ!
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* بقلم: د. محمد بن إبراهيم الحمد