ومن خلال النقولات السابقة نستطيع ارجاع نقدهم للمختصرات لعدة أسباب:• إخلال المختصرات بالبلاغة والتضحية باللفظة الفصيحة أو الجملة البلاغية لأجل الاختصار.
• فيها تخليط على المبتدي بتقديم نهايات العلم عليه قبل مقدماته , مع أن مرتبتها في نهاية الطلب لا في ابتدائه.
• أنها تنقل المتعلم من مسائل العلم الحقيقية التي لأجلها وجد إلى تتبع ألفاظ المختصرات , فتأخذ وقتاً طويلاً لفهمها أولاً وينشغل بإشكالاتها التي لا تنتهي ولا فائدة منها ثانياً.
• أن طريقة تعلم المختصرات تعتمد على التكرار حتى يرسخ المختصر في الذاكرة وهذا يؤدي لضعف الملكة وضمور الإبداع لديه.
• أنها تشغل عن الأمهات والكتب المطولات فيقتصر عليها في الدرس والفتوى وغير ذلك مما يحتاج إليه في ذلك العلم حتى تنسى المطولات والأمهات تماماً.
أما اتهام المختصرات ببعدها عن الفصاحة والبلاغة فهذا واضح في كثير منها فالمختصر همه اللفظ القليل الجامع لمعان كثيرة ولا يقتصر على هذا بل إذا احتمل الكلام منطوقاً ومفهوماً قدمه , وهذا مختصر خليل الشهير في الفقه المالكي يقال: فيه مائة ألف مسألة منطوقة ومثلها مفهومة , ولعل عذر مؤلف المختصر أن أساليب العلم وألفاظه تختلف عن أساليب العرب وعباراتهم الفصيحة , فلو أراد أن يركب كلاماًٍ علمياً بعبارات فصيحة وجمل بليغة لأدى ذلك أن يضحي بأحدهما إما بالعلم أو بالبلاغة وألفاظ العلم وأساليبه أبعد ما تكون عن البلاغة فهي تخاطب العقل بعكس الأساليب البلاغية التي تخاطب الروح والوجدان.
ولذلك عيب على البعض استعمال الألفاظ العلمية في الشعر حتى قيل فيها من باب التنقص منها "شعر فقهاء" يقول ابن خلدون: "أخبرني صاحبنا الفاضل أبو القاسم ابن رضوان كاتب العلاقة بالدولة المرينية , قال: ذاكرت يوماً صاحبنا أبا العباس ابن شعيب كاتب السلطان أبي الحسن وكان المقدم في البصر باللسان لعهده فأنشدت مطلع قصيدة ابن النحوي ولم أنسبها له , وهو هذالم أدر حين وقفت بالاطلال مالفرق بين جديدها والباليفقال لي على البديهة: هذا شعر فقيه , فقلت له: ومن أين ذلك؟ قال: من قوله: ما الفرق, إذ هي من عبارات الفقهاء وليست من أساليب كلام العرب.
فقلت له: لله أبوك إنه ابن النحوي , وأما الكتاب والشعراء فليسوا كذلك لتخيرهم في محفوظهم ومخالطتهم كلام العرب وأساليبهم في الترسل وانتقائهم الجيد من الكلام".
ويضيف: "ذاكرت يوماً صاحبنا أبا عبد الله بن الخطيب وزيرا لملوك بالأندلس من بني الأحمر وكان الصدر المقدم في الشعر والكتابة , فقلت له: أجد استصعاباً علي في نظم الشعر متى رمته مع بصري به وحفظي للجيد من الكلام من القرآن والحديث وفنون من كلام العرب وإن كان محفوظي قليلاً , وإنما أوتيت والله أعلم من قبل ما حصل في حفظي من الأشعار العلمية والقوانين التأليفية , فإني حفظت قصيدتي الشاطبي الكبرى والصغرى في القراءات , وتدارست كتابي ابن الحاجب في الفقه والأصول وجمل الخونجي في المنطق وبعض كتاب التسهيل وكثيراً من قوانين التعليم في المجالس فامتلأ محفوظي من ذلك وخدش في وجه الملكة التي استعددت لها بالمحفوظ الجيد من القرآن والحديث وكلام العرب , فعاق القريحة عن بلوغها , فنظر إلى ساعة معجباً ثم قال: لله أنت , وهل يقول هذا إلا مثلك" [المقدمة 480].على أن هذا ليس على إطلاقه والمسألة ترجع إلى الملكة والقدرة على إنشاء كلام تحقق فيه سمات البلاغة كما أن من الفقهاء من استطاع الفصل بين كتابته في الشعر وباقي الفنون الأدبية وكتابته في أبواب العلم, وإن ساعده الكتاب المبسوط على استعمال البلاغة لم يساعده الكتاب المختصر. [انظر في ذلك أدب الفقهاء لعبد الله كنون].
¥