أما تخليطها على المبتدئ حيث تلقي عليه غايات العلوم وهو لم يستعد لها فهذا ليس على إطلاقه ولا أظن غاية العلم إلا في القدرة على الاستدلال والنظر وهذا ما تسعفنا به المطولات ولا نستطيع أن نعطي المختصرات حكماً واحداً فهذا إمام الحرمين الجويني ألف مختصراً صغيراً جداً في أصول الفقه " الورقات " اقتصر فيه على التعريفات والمهم جداً في أصول الفقه وراعي فيه وضع الطالب المبتدئ حتى أنه تخلى عن تحقيق المسألة أو تقييدها حتى يفهم الطالب ما المسألة وحتى إن شراحه كثيراً ما يأخذون عليه إطلاقه وعدم تقييده أو خلطه وهذا لا يفوت عالماً محققاً كالجويني ولكن كان قصده فتح الباب أمام المبتدي ليتعرف شيئاً فشيئاً على أصول الفقه.
ولعل قصد ابن خلدون أن بعض المختصرات تلقي ثمرة الفكرة بدون مقدماتها واستدلالاتها التي يحتاجها الطالب قبل أن يصل إليها وهذا حق من هذه الناحية أما كونها تقضي على الملكة فهذا حقيقة والواقع العلمي لكثير من حفاظ المختصرات يشهد بهذا حيث يقوم بحفظ عدد من المختصرات ما بين منظوم ومنثور يقضي ربيع عمره وزهرة شبابه وتفتح طاقات عقله فيها فماذا بقي لشحذ الملكة وتنمية الإبداع ,ومن العجائب أن يوصي الطالب عند حفظ المختصرات أن يغلق باب الفهم والتفكير ويحفظ المعلومة كما هي فيحرم نفسه من أقل درجات التفكير وهو فهم المعلومة فماذا ترجي منه بعد ذلك , ويوصي بالإقلال من الحفظ والتكرار حتى يستقر في ذهنه فإذا كانت بعض المنظومات تتجاوز ألف بيت , ويوصي مثلاً لا يزيد عن حفظ بيتين في اليوم , ويتعين عليه أن يحفظ عدداً من المختصرات فكم سنة يحتاج حتى ينهيها , ثم يحتاج بعد ذلك لتكرارها بكثرة بين فترة وأخرى حتى لا ينساها فتصبح مشروعه العلمي الأوحد طوال عمره , فينصرف عن تنمية الإبداع وتكوين الملكة لديه , بل قد تموت كلية بسبب تعويد العقل على الحفظ وتمرينه على تلقي المعلومة بدون حتى أقل درجات التفكير وهو محاولة فهمها , وحتى يريحوا الطالب من عناء التفكير ويصرفوا همه إلى الحفظ كلية وضعوا له في كل فن مختصراً يحفظه ويستغني عن التفكير فيه , فطالما امتلك مختصراً في ذلك الفن فقد امتلكه من ناحيته ويكفي في رأيه أن يرد على أي استفسار ب" قال الناظم " ويردها من حفظه , وقد تربى عنده وهم أنه إذا ألقى محفوظه فهو يكفي حجة وبرهاناً وترى قيمة العالم تعلو أو تصغر لديهم بقدر محفوظاته , ولا يعترف بأحد مهما بلغ من العلم ما لم يكن لديه مستودعاً من المحفوظات يعرضه متى شاء كأحد محركات البحث السريعة , ولكن لو عرض عليه إشكال ليس في محفوظه لوجده عاجزا عن التعامل معه , فترى البعض مثلاً يحفظ ألفية ابن مالك الشهيرة في النحو ويحفظ أو يستظهر شروحها , وتراه في الدرس آية في عرض الأقوال والشواهد وغيرها ولكن لو عرضت له مسألة إعرابية لم تكن من محفوظه تراه يقف عاجزاً عنها لا يجد كيف يتعامل معها.
ومن المضحكات ما حصل في أحد البرامج الفضائية حيث كان الضيف أحد أساطين المختصرات , وكان المضيف يلقي له إشكالات يبثها الخصوم حول الإسلام , فكان يرد في كل ثقة على الإشكال: كيف وقد قال الناظم ويرد ما تجود به ذاكرته من محفوظات تتعلق بالموضوع، ويرى كأنه قد حل الإشكال بل وقضى عليه بما قال الناظم , والحافظ للكتاب من غير أن يفهمه لا يزيد أن يكون نسخة زائدة تسير على قدمين.وأما كون الاشتغال بالمختصرات يؤدي لانشغال الطالب بألفاظ المختصر أكثر من انشغاله بمسائل العلم ذاتها فهو صحيح إلى حد كبير جداً , وخاصة إذ أتبع المختصر بالاشتغال بالشروح والحواشي والتقريرات , وجلها منصب على ألفاظ المختصر , فتجد مثلاً في الشروح: لو قال كذا لكان أخصر , لو اختار التعريف الفلاني لكان أدق، لم يتحرز في تعريفه، أطلق في المسألة الفلانية , وهكذا , فيأتي المحشي فيعقب على الشارح كما عقب الشارح على المختصر , وكلها إشغال بالألفاظ أكثر من إشغالها بالمعاني , مما يتسبب في إرهاق الطالب وكد ذهنه بإشكالات قد لا تعود بفائدة ملموسة لذات العلم.
وعلاقة المختصرات بالحفظ غالبا لا بالفهم،والفهم يأتي تبعاً للحفظ , لذلك يوصي الطالب عند حفظه للمختصر أن يتعاطى ألفاظه بدون فهم حتى يستطيع ضبط المتن.
¥