تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

ولعلَّ الأمثلةَ السابقة التي ذكرتُها عن تحقيق "تاريخ واسط" تؤيِّد ذلك، علمًا بأنني وقفت على هذه العلل من خلال عملي على تخريج حديث واحد من "تاريخ واسط"، ولم أقم بعمل دراسة نقدية شاملة لهذا العمل، وهذا يعني أن جهد الأستاذ/ كوركيس في هذا الكتاب لو خَضَعَ بأكمله لدراسة نَقْدِيَّةٍ، لظهرت فيه ملاحظات أخرى مهمَّة تستوقف الباحث والناقد، فماذا يُتوقَّع أن تكون النتائجُ لو قام بهذا العمل مُستشْرِقٌ لا يَلْحَنُ بِالحُجَّة، ولا يُجيد السباحة في اللُّجَّة، والأمل معقود في الباحثين أن يتصدَّوْا لنقد مثل هذه الأعمال التي يقوم بها المستشرقون وغيرُ المتخصصين.

وللدكتور/ بشَّار عَوَّاد معروف، كتابٌ بعنوان: "في تحقيق النَّصِّ - أنظار تطبيقيَّة ونقديَّة في مناهج تحقيق المخطوطات العربية"، جعل أمثلتَهُ التطبيقيَّةَ كلَّها لنقد عمل الدكتور/ عمر عبدالسلام تَدْمُرِيّ، الذي قامَ بتحقيق كتاب "تاريخ الإسلام" للحافظ الذهبي (ت748هـ)، وقد جَمَحَ قلم الدكتور بشَّار نحو تَقْرِيعِ الرجُل والغِلْظَةِ عليه، وإن كان بما أورده قد كشف عن أخطاء كثيرة وكبيرة تستحقُّ الوُقوف، وهو ما يؤيِّد بأنَّ التَّخصُّص الدقيقَ مهمٌّ في التعامل مع المخطوطات، فالدكتور/ عمر تَدْمُرِيّ من المتخصِّصين في التاريخ، وكتاب تاريخ الإسلام يعتبر في معظمه تاريخ للعلماء ورواة الآثار، فلو أنَّ الدكتور/ عمر تدمري أشْرَك معه المُتخصصين في الحديث لكان في الإمكان تفادِي جُلِّ هذه الأخطاء التي أظهرها الدكتور/ بشَّار، والغلط لا يَسْلَم منه أحد كما قال الحافظ ابن عبدالبَرِّ [22] ( http://www.alukah.net/Articles/Article.aspx?ArticleID=2248#_ftn22)، والدكتور بشَّار نفسه – مع هذه الصَّرامة الَّتِي أبْدَاها - قد يقع منه ما يقعُ من غيره، ويفوت عليه ما يفوت على غيره، وسأُبين في المثال الخامس الآتي، ما فات عليه في ترجمة وهب بن جابر، في "تهذيب الكمال"، فانظره هناك.

ولما كان قرَّاء مثل هذه البحوث هم ممن يقومون على خِدْمة التراث، فإنه من المهمِّ جدًّا أن تكتب لهم الإرشادات بأسلوب هادئ، بعيدًا عن المُهَاتَرَةِ والسِّبَابِ؛ حتى لا يقعوا على وُجوههم في منعطفات النفس الوَعِرَةِ، وعَقَباتِها الكَأْدَاء، وهي التي لمَّا وقف عندها بعض علمائنا الأفاضل وعرفوا دسائسها، فمنهم من رمى بكُتُبِهِ في اليمِّ، ومنهم من دفنها، ومنهم من غسلها، ليغسل من قلبه حُبَّ الرئاسة، والشهرة، وشهوةِ الحديث، وسَطْوَتِهِ [23] ( http://www.alukah.net/Articles/Article.aspx?ArticleID=2248#_ftn23).

من أجل ذلك: فإنَّ القول بأنَّ المستشرقين همُ السابقون لمعرفة قواعد النقل والتحقيق في التراث العربي والإسلامي -: أَمْرٌ تَدْحَضُهُ البراهينُ، وهو مُؤَشِّر لانبهارٍ لا مُسَوِّغَ له، وانهزاميةٌ لا مُبَرِّرَ لوجودها في أذهان طلاب العلم.

وفي المقابل لهؤلاء المنهزمين شَمَّرَ آخَرون لم يَدُبَّ الكَلَلُ إلى هِمَمِهِمْ، واستعذبوا في سبيل خدمة العلم كل عَنَت وشِقْوَة، وعكفوا على التُّراث، فعرفوا أبوابه ومداخله، واستخلصوا قواعدَ وأصولَ تدوينِهِ وقراءته، فطوَّروا القديم ليواكب العصر، وكأني بهم في شِقْوَتِهِمْ وجَلَدِهِم يقولون: (نحن في لَذَّة لو علمها الملوك لجالدونا عليها بالسيوف). فكان سَعْيُهم جديرًا بالتقدير، والحفاوة، ومن هؤلاء الجهابذة الأستاذ/ عبدالسلام محمد هارون - رحمه الله - فقد صَدَحَ في كتابه "تحقيق النصوص ونشرها"، بصوت عذب يُطْرِبُ العِيسَ، لتَجِدَّ السَّيْر نحو مياه مجَنَّة، وتُلقِيَ بجُرُنها في أوديةٍ خصيبة فيها إذخِرٌ وجَلِيل، فَتَبْدُوَنَّ لها بإذن ربها شامَة وطفيل.

ومن ألطف الردود على أولئك المبهورين ما كتبه الأستاذ الدكتور/ نور الدين عتر - نفع الله به - في مباحث مستطابة في كتابه "منهج النقد في علوم الحديث" شملت سردًا رصينًا للتطور التاريخي لعلوم الحديث، بدءًا من علوم الرواة، والرِّوَاية، والنقد من حيث القبول والرد، والمَتْن والسَّنَد، وشُبُهات وتحامُلات المستشرقين، الذين يزعُم بعض تلامذتهم أنهم أَمْهر البحارة في خِضَمِّ تراثنا الواسع المُتلاطم.

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير