اللغة المُثْخنة .. !
ـ[الباحث اللغوي]ــــــــ[11 - 12 - 2006, 08:05 م]ـ
قال العقاد عن اللغة العربية: "لقد تعرضت وحدها من بين لغات العالم لكل ما ينصب عليها من معاول الهدم ويحيط بها من دسائس الراصدين لها؛ لأنها قوام فكرة وثقافة وعلاقة تاريخية".
أُثخنت لغتنا .. ؟ لا شك ولا تزال الحروب تتوالى بلا رحمة أو هوادة، ونظرة واحدة لهذا الدم النازف من جراحات لغتنا تؤكد ذلك، نزيف في أسماء المحلات الأجنبية، نزيف في العرق المتصبب من مثقفينا وهم يجاهدون الحديث بلغتهم الأم!! نزيف في اغتراب لغتنا على ألسنة الصغار!! والنزيف الأخطر في النظرة الدونية لهذه اللغة الصابرة، وتفضيل لغات الشرق والغرب عليها عند الأجيال الصاعدة ..
حرب مشتعلة وما من مدافع .. لأن الأعداء خططوا جيدًا، ففي الوقت الذي يؤكدون لنا أن اللغة شيء ثانوي غير مهم، فإنهم يتمسكون بلغاتهم شديد التمسك .. واثقين أن محاربة اللغات القومية هو المصدر الرئيسي لزعزعة الثقة بالنفس وتمزيق الوحدة والشعور بالذات أو بعبارة أخرى أن القضاء على اللغة القومية هو القضاء على القومية ذاتها…
كيف نظروا إلى لغاتهم؟؟ هذا ما سنوضح بعضه؟ وكيف ننظر للغتنا؟ الإجابة عندي وعندك…
"آرنت" المفكر الألماني المعروف كان يحدد الوطن الألماني بحدود اللغة الألمانية فيقول في إحدى قصائده:
"الوطن الألماني كل البلاد التي يرتفع فيها إلى السماء الحمد لله باللغة الألمانية ... " فبمقدار اكتساب اللغة القومية لألسنة جديدة بمقدار ما تكتسب الدولة أراضي جديدة، ونفوذا جديدا، وأموالا جديدة.
وهناك تعبير في الإنجليزية يلخص كل ما يمكن قوله عن أهمية اللغة القومية وخطورتها .. هذا التعبير هو:
The Mother Tongue
أي "اللغة الأم" ويقصد به اللغة القومية وهو تصوير – كما يقول العلامة (كمال بشر) في كتابه "علم اللغة الاجتماعي" لحقيقة تخفى على من عميت بصائرهم فلم يعبئوا بلغتهم القومية، ذلك أن الأم حين تحتضن صغيرها وتضمه إلى صدرها تغذيه بلبنها وتداعبه وتخاطبه في الوقت نفسه بكلماتها فهي مع ما تمنحه له من غذاء تمنحه غذاءً عقليًّا روحيًّا .. فتأخذ بيده وتعاونه على تكوين حياته الفعلية والروحية .. ويروي التاريخ لنا أن الأمم الحية تنظر إلى لغتها القومية نظرة إجلال واحترام تزداد هذه النظرة بوجه خاص عند الشدائد، فحينما احتل الأعداء بولندا لم يستطع البولنديون مقاومتهم عسكريًّا، وإنما كانت المقاومة تتمثل في أمر وحيد قد يبدو للبعض بسيطًا وهو: إحياء لغتهم القومية التي حاربها المستعمر، فصمدوا بأغانيهم الشعبية ونثروا آدابهم ولغتهم ونشروها أينما ذهبوا حتى أن البولندي كان يتكلم بلغته لا لشيء إلا رغبة في إشباع عاطفته القومية، على الرغم من أن كلمة بولندية واحدة يسمعها المستعمر قد تُلْقي بصاحبها إلى السجن… ويؤكد فوسلار على هذا: "إذا حُرِم الإنسان من موطنه على الأرض فإنه يجد موطنًا روحيًّا في لغته القومية".
و (دانتي) صاحب (الكوميديا الإلهية) على الرغم من مناداته ودعوته للغة العالمية الموحدة فإنه كان يعتبر من يتخلى عن لغته الإيطالية غبيًّا ملحدًا!!
وبينما تعامل الأوروبيون هكذا مع لغاتهم، حاربوا لغاتنا وقاتلوها .. فنابليون كان يُوَدِّع بعثاته الاستعمارية قائلاً: عَلِّموا اللغة الفرنسية أينما ذهبتم فتعليمها هو خدمة الوطن الحقيقية"، وهكذا كان قائلهم يؤكد: إن الجزائر لن تصبح مملكة فرنسية حقيقية إلا عندما تصبح لغتنا هنا لغة قومية.
وهذه الخطة الفرنسية المحكمة نفذها "كرومر" الإنجليزي في مصر حين أوقف تعيين كل من لا يعرف الإنجليزية في المصالح الحكومية المصرية.
أَعْلم أنه لمن الهذر تضييع الوقت لإثبات فكرة الحرب على اللغة العربية؛ لأنها أجلى من أن توضح، ولكن ما حيلتنا وقد أصبحنا في حاجة مُلِحَّة إلى مراجعة كل أبجديات فهمنا وثقافتنا تحت ضغط المشككين في الثوابت دومًا.
فقيم العولمة وقبول الآخر جعلتنا نقدم القرابين ساجدين تحت قدم "الآخر"… هذا الآخر الذي لا يعبأ أن ينشب أظفاره فينا أو يمسخ هويتنا أو حتى أن يغتال قدرتنا على التواصل مع أهلينا!!
وكعادتنا نتسامح ضعفًا حينًا ووهنًا حينًا وبحجة "قبول الآخر" أحايين أخرى، أليس غريبًا أن "الآخر" لم ينجح في استبدال الكريسماس بمولد النبي صلى الله عليه وسلم وباربي بالعروس والحصان، إلا حين حوَّل السلام عليكم إلى "هاي" أو "تشاو" أو "بون سوار" أو أنواع متعددة من المسخ المدهش، أفلا نفقه إذن أن العربية هي أحد قلاعنا الأخيرة؟! ..