والمتتبع لهذا الموضوع سوف يتبين مجموعة من الحقائق البينة منها، أن القولَ بعُجمةِ لفظ من ألفاظ العربية عند الأقدمين لم يكن مبنيا على البحث والدرس والعلم بلغاتٍ غير العربية، وإنما كان مبنيا على الظن والتوهم. وعندهم أن كل كلمة لم يُشتَهر فيها استعمال جاهلي دخيلة، وإذا كانت دخيلة فهي عند أحدهم فارسية، وعند آخر عبرانية، أو سريانية، أو حبشية، ولم يهتدوا إلى أن بين العربية والعبرانية والسريانية والحبشية ولغاتٍ أخرى علاقاتٍ تاريخيةً وقراباتٍ لغوية مردُّها الأصولُ (السامية) الأولى التي دل عليها البحث الحديث.
فإذا تعمقنا في مسألة أصول الألفاظ ونشأتها فإن الدراسة المتمعنة تثبت أن (الأعاجم) هم الذين أخذوا عن العربيةِ ألفاظَها وليس العكس. فالفرس مثلا كان وجودُهم بعد وجود العرب البابليين (أكاديين أو آشوريين) بزمن مديد، وما من ريب في أن لغة بابل كانت عربية، أو عروبية أو سامية حسب التعبير المتداول، وهم كانوا أسبق حضارة وأغنى لغة، وأكثر لفظا دالا على المدنية.
لقد كانت الأمة العربية في جزيرة العرب التي كانت مصدر الأفواج البشرية وخزانها الهائل على مر التاريخ والأقطار العربية من الرافدين والشام ومصر وشمالي إفريقيا كانت على مدى التاريخ منذ أقدم عصوره تمثل كتلة بشرية واحدة ذاتَ لغة واحدة وإن تعددت لهجاتها وتطورت دلالة ألفاظها. وحين نزل القرآن على خاتم النبيين صلى الله عليه وسلم كانت تلك اللغة المشتركة في قمة اكتمالها وذِروةِ نموها فعبرت تعبيرا كاملا ودقيقا عن محتويات الأحكام والعبادات بلغة معجزة وأسلوب لا يجاريه أسلوب قط. ولم تكن بحاجة إلى الاستعارةِ أو الأخذ أو النقل، فقد كانت هي النبع الذي صدرت عنه بقيةُ الألسن واللغات المحيطة بها على مر الزمان، وبذا كان هذا الكمالُ المعجز في القرآن الكريم الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.
كلمة “إبريق”
في الفصل التالي من الكتاب يتتبع المؤلف أشهر الألفاظ التي قيل إنها أعجمية، ويبين عروبتَها استنادا إلى ما تقدم من البحث عن أصلها في اللغات العروبية.
وقد اخترنا لكم ثلاثَ كلمات هي: إبريق ورقيم وكافور، لنتعرف إلى أسلوب المؤلف في رد الألفاظ إلى العربية.
إبريق: قيل إن الكلمة تعريب للفظ الفارسي (آبريز) بمعنى جرة أو دلو، لكن معناها الحرفي هو: طريق الماء أو صبّ الماء.
ويرى المؤلف أن الكلمة عربية وذلك من وجهين: الأول أن الكلمة مأخوذة من (بَرَقَ) العربية، والبرقُ نفسه فيه مخيلة صب الماء، كما أن العرب تقول: برَقَ الطعامَ يبرقه إذا صب فيه الزيت، والبريقة هي اللبن يصَبّ عليه الماء أو سمن قليل. وتقول العرب: أبرقوا الماء بزيت .. أي: صبوا عليه زيتا قليلا. ولما كان الإناء الذي يصب منه الماء مصنوعا من خزف أو معدن فإن البريق حاصل .. فيكون اشتقاق لفظ الإبريق من (بَرَق) أقربَ من الأصل الفارسي.
والوجه الثاني لعروبة الكلمة هو أن (آبريز) التي يقولون إنها أصل الإبريق هي نفسها عربية، وبيان ذلك أن اللفظ مكون من كلمتين (آب = ماء) و (ريز = صب).
و (آب) هذه نجدها في العربية في مادة (أبَبَ)، وتقلب الهمزة عينا فتصير عباب، وهي كلمة معروفة في العربية. ونجدها في الحبشية (أبابي)، وفي الأكادية (أبوبو) ومعناها ماء غزير، وفي المصرية القديمة (إبت) بمعنى ماء طهور. فهذه الكلمة تكاد تكون في كل اللغات العروبية ولا يجوز حصرها في لغة واحدة، بل إن قِدم اللغات العروبية يعني أنها عربية الأصل ثم انتقلت إلى الفارسية.
أما كلمة (ريز) فإنها متحولة من الخاء (ريخت). ونجد في العربية مادة (رَيَق) ومنها راق الماء بمعنى انصب، ومنها راق الشراب: أي جرى وتضحضح فوق الأرض.
وهكذا يثبت المؤلف عروبة الكلمة بإعادتها إلى جذر لغوي عربي من جهة، وبإثبات عروبة الأصل الذي أخذت منه وزعمت عُجمتُه.
الرقيم والكافور
¥