ولا كرامة في هذه النبوة إذ هي بإحضار عمل الإنسان المنبإ به فيعرض عليه ليراه جهرة كما في قوله ? علمت نفس ما أحضرت ? التكوير 14، وقوله ? علمت نفس ما قدمت وأخرت ? الانفطار5، ولا علم قبل تمكن البصر من المعلوم كما في قوله ? يوم ينظر المرء ما قدمت يداه ? النبأ 40، وقوله ? كذلك يريهم الله أعمالهم حسرات عليهم ? البقرة 167، وقوله ? يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضرا وما عملت من سوء تودّ لو أن بينها وبينه أمدا بعيدا ? عمران 30 والمعنى أنه محضر كذلك وقوله ? ووجدوا ما عملوا حاضرا ولا يظلم ربك أحدا ? الكهف 49.
وإن قوله ? علمت نفس ما قدمت وأخرت ? الانفطار 5 لمن المثاني مع قوله ? ونكتب ما قدموا وآثارهم ? يس 12، وقوله ? ليحملوا أوزارهم كاملة يوم القيامة ومن أوزار الذين يضلونهم بغيرعلم ? النحل 25، وقوله ? وليحملن أثقالهم وأثقالا مع أثقالهم ? العنكبوت 13 إذ الذي قدّموه هو ما عملوا في حياتهم والذي أخّروه هو الأثر الذي تركوه خلفهم ومنه الأشرطة المسموعة والمرئية فإن كان سيئا كان من أوزار الذين يضلونهم بغير علم ومن الأثقال مع أثقالهم.
وإنما ذكرت الحديث عن النبوة الآخرة العامة لتقريب علم اليقين الحاصل للنبيّ في الدنيا بما ينبئه به الله العليم الخبير.
إن الذين كانوا يقولون عن النبيّ ? ? هو أذن ? التوبة 61 ّ بمعنى أنه يسمع ويقبل ما يتلقى من أعذارهم كالمغفل وهو أبعد ما يكون الرجل عن الوحي هم المنافقون الذين يحسبون النبيّ ? كذلك، لا يفقهون أن النبيّ تعرض عليه في يقظته ونومه أعمال أمته سواء منهم من عاصروه والذين سيتأخرون عنه ويعرض عليه مما سيكون من الحوادث في أمته إلى آخرها وإلى قيام الساعة فما بعده.
إن الله نبّأ النبي ? بما سيكون في أمته فعرضه عليه عرضا ورأى رجال ونساء أمته حسب أعمالهم ودرجاتهم على نسق ما ينبئ الله به كل إنسان في يوم الدين والحساب بما قدم وأخر من أعماله.
ولا تسل عن اليقين من العلم الحاصل للإنسان المنبإ في يوم الدين ولا للنبيّ في الدنيا لأن الله يري النبي ذلك العرض بأم عينيه في الدنيا كما في الأحاديث المتواترة ومنها:
حديث صحيح البخاري في كتاب المناقب باب علامات النبوة في الإسلام
عن عقبة بن عامر: أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج يوما فصلى على أهل أحد صلاته على الميت ثم انصرف إلى المنبر فقال إني فرطكم وأنا شهيد عليكم إني والله لأنظر إلى حوضي الآن وإني قد أعطيت خزائن مفاتيح الأرض وإني والله ما أخاف بعدي أن تشركوا ولكن أخاف أن تنافسوا فيها.
ومنها حديث صحيح مسلم في كتاب الكسوف باب ما عرض على النبي ? في صلاة الكسوف من أمر
عن جابر ومنه " ... ما من شيء توعدونه إلا قد رأيته في صلاتي هذه لقد جيء بالنار وذلكم حين رأيتموني تأخرت مخافة أن يصيبني من لفحها وحتى رأيت فيها صاحب المحجن يجر قصبه في النار كان يسرق الحاج بمحجنه فإن فطن له قال إنما تعلق بمحجني وإن غفل عنه ذهب به وحتى رأيت فيها صاحبة الهرة التي ربطتها فلم تطعمها ولم تدعها تأكل من خشاش الأرض حتى ماتت جوعا ثم جيء بالجنة وذلكم حين رأيتموني تقدمت حتى قمت في مقامي ولقد مددت يدي وأنا أريد أن أتناول من ثمرها لتنظروا إليه ثم بدا لي أن لا أفعل فما من شيء توعدونه إلا قد رأيته في صلاتي هذه.
وكما فصلته في كلية النبوة والرسالة.
ولقد نبّأ الله نبيه الأمي ? بالقرآن ومنه قوله تعالى ? إنا سنلقي عليك قولا ثقيلا ? المزمل 5 وللباحثين المتجردين أن يتصوروا كم هو القرآن أثقل وأثقل علينا نحن عامة الأمة إذ لم يتنزل على قلب أحد منا، وإنما أنزل الله القرآن على قلب نبيه ?، ووصف الله القرآن بالقول الثقيل وهو يتنزل على قلب نبيه ?.
فوا عجبي أن يتخذ المؤمنون القرآن مهجورا أو يتصوروه خفيفا عليهم فهمه وتدبره والاهتداء به والعمل به.
ووا حيرتي في أمة لم تستنبط ـ عبر أربعة عشر قرنا من تلاوة القرآن آناء الليل وأطراف النهار ـ حرفا واحدا ولا حرفين من الأحرف السبعة التي أنزل عليها القرآن، فما شغلها عن تدبر القرآن الميسر للذكر إلا أقفال على قلوبها، أقفال من المتون وافتراض الأقضية والألغاز في ما يسمونه بفقه المعاملات، وأقفال من التقليد حال بينهم وبين الطاعة باستعمال السمع والبصر والعقل في تدبر القرآن.
¥