لذلك بما حدث معه، ربما يبدو ساذجاً فقد حدث في وقت الطفولة: "اعتدت منذ الصغر على قراءة الآية التالية: ? قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنْ اتَّبَعَنِي ... ?، هكذا مقطعاً واحداً بلا توقف ... حتى سمعتها ذات يوم من قارئ يقف عند لفظ الجلالة من قوله: ? قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ ... ?، ويبتدئ بما بعده: ? عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنْ اتَّبَعَنِي .. ?، فأضافت لي معنى جديداً لم أكن أعرفه من قبل، ومثلها قوله تعالى: ? تَمُنُّهَا عَلَيَّ أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرَائِيلَ?، على صيغة الاستفهام في قوله: ? تَمُنُّهَا عَلَيَّ ?؟، ومثلها قوله تعالى: ? فَلَا يَصِلُونَ إِلَيْكُمَا بِآيَاتِنَا أَنْتُمَا وَمَنْ اتَّبَعَكُمَا الْغَالِبُونَ ?، هكذا مقطعاً واحداً حتى سمعتها مرة من متقن للقراءة يقف عند قوله: ? إِلَيْكُمَا ?، ثم يستأنف بقوله: ? بِآيَاتِنَا أَنْتُمَا وَمَنْ اتَّبَعَكُمَا الْغَالِبُونَ?، فأضافت لي معنى جديداً.
ومثل ذلك من الآيات كثير لم أفقه معانيها إلا بعد سماعها من متقن لقراءة القرآن، وأنا على يقين من أن تجارب مماثلة تمرّ بالقارئ ربما يستحضرها لحظة القراءة، وهذا يؤكد الدور الذي يتركه الأداء الصوتي المطلوب أثناء التلاوة، أو ما يمكن أن نطلق عليه: التنغيم ( Intonation) الذي يمكن القول عنه بأنه "موسيقى الكلام" ( Musical Sound) أو يمكن أن يقال عنه "الإطار الصوتي الذي تقال به الجملة في السياق"، فهذا التنغيم يعتمده المتحدث في حديثه مع الآخرين وهو معروف لدى جميع اللغات، إذ يحتاج إليه كل إنسان يتحدث مع الآخرين ولولاه لما استطاع المرء الوقوف على مراد المتكلم، هذا النبر هو الذي يترجم لنا المواقف الانفعالية التي تنطوي عليها نفسه، فقد قيل في تعريفه: "ارتفاع الصوت وانخفاضه مراعاة للظروف المؤدى فيها".
وبهذا يمكن إدراك الدور الذي يؤديه هذا الأداء الصوتي، إذ لكل مقام مقال، وعليه يمكننا أن نفهم الوظيفة الدلالية لهذا الأداء وهي: "التفريق بين المعاني أولاً، ثم إبراز المعاني النفسية ثانياً، إذ الكلمة تنطق بقالب نغمي معين فيكون لها معنى، وإذا ما تم نطقها بقالب نغمي آخر كان لها معنىً آخر، وهذا هو النظام الشائع في اللغات النغمية"، يشار إلى أن علماء اللسانيات يذكرون هنا أنواعاً للنغم.
أما القيمة الصوتية لهذا الأداء فمنشؤها: التغير في نسبة ذبذبة الوترين الصوتيين" نتيجة هذا الارتفاع والانخفاض في الصوت حيث تحدث هذه الحركات "نغمة موسيقية"، وعليه فالتنغيم يدل على العنصر الموسيقي في الكلام".
وقد كان لعلماء المسلمين اهتمام بالتنغيم في جانب القرآن الكريم، ويدل على ذلك وجود بعض المصنفات التي تتعلق بهذا"، كما يدل عليه إشارات الذين تحدثوا عن التجويد وقواعده، كمقولة ابن الجزري: "ولقد أدركنا من شيوخنا من لم يكن له حسن صوت، ولا معرفة بالألحان، إلاّ أنه كان جيد الأداء قيما باللفظ، فكان إذا قرأ أطرب السامع، وأخذ من القلوب بالمجامع، وكان الخلق يزدحمون عليه، ويجتمعون على الاستماع إليه".
كما نجد أن علماء اللغة قد أشاروا إلى أهمية هذا التنغيم مبينين دوره في الكلام، إذ يمكن به أن يستغنى عن الصفة، وأحياناً عن أدوات التعجب وأدوات الاستفهام، فيكون الاعتماد أولاً وآخراً على طريقة الكلام، كما أشار علماء اللغة إلى أهمية التنغيم ودوره الإيقاعي، حيث قالوا بتنوع وتعدد معاني الجمل ما بين إثبات ونفي، وتأكيد، وتعجب، واستفهام ... تتنوع وتعدد القوالب التنغيمية والأدائية، إذ لكل جملة من هذه الجمل قالب تنغيمي ونمط أدائي خاص لا تشاركها جملة أخرى فيه، وهذا النمط يجب اتباعه ومراعاته في النطق بكل جملة وإلاّ عُدّ المتكلم لاحناً، وكان شأنه شأن من رفع المفعول ونصب الفاعل، فالخروج بالجملة عن قالبها التنغيمي كالخروج على قواعد النحو، ومن هنا فالتنغيم يمثل خاصية من خصائص هذه اللغة العربية وسمة من سماتها ومسلكاً من مسالكها.
والعرب كانوا يعتمدون على الأداء في إفادة المعنى وإبانة الغرض، وقد فطن لهذا ابن جني في شرحه على تصريف أبي عثمان المازني حيث قال: "أهل هذه اللغة قد يصلون إلى إبانة أغراضهم بما يصحبونه في الكلام فيما تقدم مثله أو يتأخر بعده وبما تدل عليه الحال فإن لها في إفادة المعنى تأثيراً كبيراً"، ومن طريف ما روي من الحوادث التي تؤكد دور التنغيم هذا في الوقوف على المعنى ما روي، أن:"اليزيدي سأل الكسائي بحضرة الرشيد، فقال: انظر! في الشعر عيب؟ وأنشده:
لا يكون العير مهراً لا يكون المهرُ مهرُ
فقال الكسائي: قد أقوى الشاعر، فقال له اليزيدي: انظر فيه. فقال: أقوى، لا بد أن ينصب المهر الثاني على أنه خبر كان، فضرب اليزيدي بقلنسوته على الأرض، وقال: أنا أبو محمد: الشعر صواب، إنما ابتدأ فقال: المهر المهر، فقال له: يحيي بن خالد: أتتكنى بحضرة أمير المؤمنين وتكشف رأسك، والله لخطأ الكسائي مع أدبه أحب إلينا من صوابك مع سوء فعلك، فقال: لذة الغلبة أنستني من هذا ما أحسن إليك". فانظر هذه الحادثة تجد أن التنغيم وحده هو الحكم، وهو الفيصل في الوقوف على صواب المعنى، فحمل الوقوف على" لا يكون". أما الابتداء فبلفظ" المهر المهر".
تبين بهذا أن المتكلم يمكنه بهذا النبر أن يجسّد معانيه النفسية التي يريد إيصالها إلى غيره فيلجأ إلى تكثيف الصوت على الكلمة التي هي موضع إسقاط الصوت، وقد يصبح النبر نداءً نفسياً يجمل كل معاني الكلام، ويحسب الباحث بعد هذا أن الأمثلة تجلّي الأمر وتقف بالقارئ على أهمية ودور هذا التنغيم في الأداء الإيقاعي، وبالتالي الوقوف على صواب المعاني.
وقد اتبعت المطل المذكور العنوان التالي:
امثلة ونماذج قرآنية يبرز فيها دور التنغيم
، ولو رغبت اخي المزيد فسارفعه لك باذن الله تعالى ..
¥