تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

سأحاول أن يكون الحوار مفتوحا بيننا لتجنب تراكم الأفكار الذي يؤدي إلى إهمال بعضها، وسأحاول الاعتراض على الأسس التي بنيت عليها نظريتك التي أرى أنها فعلا خطيرة لأنها تؤدي إلى أن بعض القراءات الثابتة هي من اجتهاد القراء وقياسهم، وليست مما قرأ بها النبي صلى الله عليه وسلم ولا الصحابة.

وفي الحقيقة قد أعددت مجموعة من المقدمات والفصول لأبين بها جملة من الأصول والقواعد، لكن فضلت عدم ذكرها مفصلة لأن الفرض أنها معلومة لكل من له طرف في هذا الفن، فمن جملة تلك القواعد أن القراءة سنة متبعة، والآثار الصحيحة في ذلك كثيرة، فمنها قول علي رضي الله عنه: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم «يأمركم أن يقرأ كل رجل منكم كما علِّم» وفي رواية: «يأمركم أن تقرءوا القرآن كما علمتم» وقول عروة بن الزبير رضي الله عنه: «إنما قراءة القرآن سنة فاقرءوا كما أقرئتموه» وقول زيد بن ثابت رضي الله عنه: «القراءة سنة» وقول حذيفة رضي الله عنه: «يا معشر القراء استقيموا فقد سبقتم سبقا بعيدا، فإن أخذتم يمينا وشمالا، لقد ضللتم ضلالا بعيدا» وعن ابن مجاهد رضي الله عنه: «لا ينبغي لذي لب أن يتجاوز ما مضت عليه الأمة والسلف بوجه يراه في العربية جائزا» والأدلة في هذا المعنى كثيرة وهي قاضية باستحالة دخول القياس في القراءات.

ومن جملة القواعد أنه لا فرق بين اللفظ والنطق معنى، فإن اللفظ لا يقوم ولا يستقيم النطق به إلا بصفاته من مدّ وتخفيف همز وغيرها، وبهذا تعلم أنه لا فرق بين اللفظ والنطق معنى، فإن الملفوظ هو عين المنطوق، فإذا كان اللفظ متواترا كان نطقه بصفاته متواترا، إذ الملفوظ والمنطوق لفظان مترادفان يلزم من وجود أحدهما ووجود الآخر.

ومن جملة القواعد أنه إذا ثبت تواتر اللفظ ثبت تواتر آدائه لأن اللفظ لا يقوم إلا به ولا يصح إلا بوجوده.

وبالجملة، سأحاول مناقشة ما ورد من جانبك نقطة نقطة فإذا تخلصنا منها انتقلنا لما بعدها، فمثلا قولك:

إن القرءان وهو كلام الله المنزل على النبي الأمي المكتوب بين دفتي المصحف لمتواتر جملة وتفصيلا كلمة كلمة حرفا حرفا كما بينت في بحثي " إثبات تواتر القرآن دون الحاجة إلى اللهجات والقياس في القراءات ".

وأما القراءات فقد نشأت أول ما نشأت في القرن الثاني بعد نزول القرآن أي نشأت باجتهاد من القراء والرواة والطرق عنهم

كلامك هذا قاض بالمغايرة الحقيقية بين القرءان والقراءات، وهذا من الأصول الباطلة التي بنيت عليه فكرة دخول القياس واجتهادات الناس في القراءات أي في القرآن الذي هو كلام رب العالمين.

والحق أن الفرق بينهما اعتباري وليس حقيقيا، فإن القرآن هو اللفظ المنزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم للإعجاز بأقصر سورة منه، المتعبد بتلاوته، المحتج بأبعاضه. أو هو ما نقل بين دفتي المصحف نقلا متواترا متفقا على قرآنيته، والقراءات هي اختلاف لفظ الوحي في الحروف وكيفيتها من تخفيف وتشديد وإدغام وإظهار وفتح وإمالة وقصر ومدّ وضم وفتح وكسر وسكون ونحو ذلك. فالقرآن والقراءات حقيقتان متغايرتان كما ربما يظهر للبعض، لكن المغايرة بينهما إنما هي مغايرة اصطلاحية، لا باعتبار المعنى وذلك لما بينهما من التلازم الكلي. وبيانه أنه لا يسوغ للافظ أن ينطق بلفظ (موسى) مثلا بدون إمالة وفتح ومدّ طبيعي وحركة وسكون وغير ذلك من الصفات بأن يكون اللفظ عاريا عن جميعها أصالة، كما أنه لا يسوغ له أن يأتى بالصفات المذكورة وغيرها بدون لفظ تقوم به لاستحالة جميع ذلك، وبهذا تعلم وتجزم بأن من قال بوجود القرآن دون القراءات قوله باطل وهو خارج عن طور العقلاء بسبب ذلك، إذ لا يتصور وجود لفظ القرآن والنطق به من غير كيفيات تقوم به، وباي شيء يؤدى حينئذ؟!

فإن ادعيت ثبوت قراءة واحدة من القراءات ليتحقق بها النطق، قيل لك: فما فررت منه وقعت فيه، وذلك أن القراءة التي أثبتها هي من القراءات ذات أوجه ثابتة بالأسانيد المتواترة والصحيحة المستفاضة المتلقاة بالقبول، فعلى أيّ وجه منها تقتصر عليه؟! وإلا يلزمك على ادعائك تعدد القرآن وهو واحد لثبوت قراءة واحدة عندك دون غيرها من القراءات الثابتة بالتواتر والصحيحة المستفاضة المتلقاة بالقبول، ويلزمك التخصيص من غير مخصص والتحكم لأن جميعها منقول عن النبي صلى الله عليه وسلم وأنزلها الله عليه وأخذت عن النبي صلى الله عليه وسلم وهكذا طبقة بعد طبقة إلى أن وصل ما ذكر إلينا عن المشايخ الثقات بالأسانيد الصحيحة والمتواترة.

وأيضا فإن أوجه القراءات العشر أبعاض القرآن وأجزاء منه، فقراءة (مالك يوم الدين) بإثبات الألف لفظا بعض القرآن وجزء منه، وقراءة حذف الألف لفظا وخطّا بعض القرآن وجزء منه أيضا، وقراءة ضم الهام في (عليهم) بعض القرآن وجزء منه، وقراءة كسر الهاء بعض القرآن وجزء منه، وهكذا في كل وجه من أوجه القراءات العشر، فالكل أبعاض القرآن وأجزاؤه، واسم القرآن صادق على جميعها حقيقة.

ويؤيد هذا إجماع الفقهاء والقراء وغيرهما على أن الإنسان إلى قرأ في صلاته فرضا أو نقلا فاتحة وسورة بوجه من الأوجه المروية عن الإمام عاصم أو قرأ فيهما بوجه من الأوجه المروية عن الإمام حمزة الزيات أو قرأ بوجه من الأوجه المروية عن الإمام الكسائي أو قرأ بوجه من الأوجة المروية عن الإمام نافع فصلاته صحيحة من غير خلاف، والائتمام به صحيح من غير شك لأنه صلى بجزء من القرآن فرضا أو نفلا على أي وجه كاتن مروي عمن ذكر من الأئمة أو عن غيرهم من باقي الأئمة العشرة المروية بالتواتر وصحة السند للحافظ ابن الجزري أو غيره من الأئمة المحققين.

ثم تقرر أن القرءان والقراءات حقيقية واحدة، تبين أن من اجتهد في إثبات القراءات فقد اجتهد في إثبات القرآن الذي هو كلام رب العالمين، وهذا لا يقوله مسلم.

أما ما استشهدت به به من كلام ابن الحاجب، فهو في غاية الضعف، وقد رد عليه السبكي وابن الجزري، وحاول القسطلاني في لطائفه توجيه كلامه، وبالجملة لا حجة فيه لك.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير