أبديُّ الحب نقيُّ الحرب = مَصون العرض مهنَّدهُ
وعلى يده لله يدٌ = بلطيف القدرة تعضُدهُ
العالم قصر خلافته = وسماء العالم معبَدهُ
سرُّ الكونين برؤيته = وعن الكونين تجرُّدهُ
وسراب العصر بنور الدين = ونار الحب يبدِّدهُ
ومن الصور البديعة المشحونة بالدلالات التاريخية ما ورد في القصيدة من تشبيه أعمدة المسجد بأعمدة النخيل في أرض الشام. لكن الصورة التي ألهبت خيالي، وتركت في نفسي أثرا لا يمَّحي هي الربط بين قبة المسجد وقمة جبل الطور، في لمسة شاعرية، ونفحة إلهية، أوتي منها إقبال ما لم يؤت غيره من الشعراء:
كنخيل الشام وأعمدها = شمختْ في المسجد أعمدهُ
تتألق زرقة قبته = وتُقيم الليل وتُقعِدهُ
وتنهُّدها في وحدتها = كالطور كواه تنهُّدهُ
على أن قصيدة "مسجد قرطبة" ليست هي كل ما كتبه إقبال في ذلك البيت المعمور/المهجور، وفي تلك الأرض السليبة الضائعة. بل كتب إقبال قصائد غيرها، وأبياتا متناثرة أخرى، وإن لم تصل إلى مستوى التألق الروحي والشاعرية المجنحة التي نجدها في القصيدة السابقة. ومن ذلك تلك الأبيات التي كتبها على لسان طارق بن زياد وهو يستعد لاقتحام البحر إلى الأندلس، يناجي فيها الخالق العزيز، ويتحدث عن جنوده المجاهدين المتجردين، السائرين على خطى الأنبياء، همهم نيل الشهادة، لا سبي الغواني أو سلب الخزائن ..
هذي الكماة عبادك الأخيارُ = حملوا عناء العالمين وساروا
أصحاب سرِّك والسيادة طبعهم = والنور في نظراتهم والنارُ
فعلتْ كموسى في البحار مَطِيُّهم = وتراجعتْ لخطاهم الأنهارُ
البحر حبة خردل في كفهم = والعشق في أرواحهم إعصارُ
عزفوا عن الدارين إلا أنهم = علَمٌ على الدارين لا ينهارُ
نيل الشهادة للموحِّد مطمحٌ = وإذا تقحَّم فالجراح غبارُ
لا سبي غانية وسلب خزانة = ومطامح الهمم الكبار كبارُ
ومن ذلك قوله واصفا الطبيعة الخلابة في قرطبة، ومثيرا الذاكرة التاريخية في نفوس المسلمين:
تميل سحابة الوادي = فتحكي فيه غطُّاسا
رمتها الشمس بالياقـ = ـوت أكداسا فأكداسا
وأغنية ابنة الفلَّاح = تطرب رغم ركَّتها
برقتها إذا غنَّت = وآهتها وأنَّتها
كأن غناءها فيضٌ = يُقِلُّ سفينة القلبِ
تغازل نهر قرطبة = الذي يذخر بالحبِّ
هنالك يرتع الساري = هنالك تصدح الوُرْقُ
كأن النهر تاريخٌ = يغني فوقه الشرقُ
ويتحسر إقبال على ضياع ذلك الصرح الإسلامي أيما تحسر: فهل يعقل أن لا يرتفع الأذان على تلك المنارة المهيبة التي احتضنت في ظلالها يوما قوما وحدوا الخالق؟ وهل يعقل أن ترتفع الصلبان عليها وهي لا تزال مزينة بآيات القرآن؟ يا لها من فجيعة!!! يقول إقبال مخاطبا المسجد:
إن أرضا أنت فيها = لسماء للعيونْ
كيف لم يسمعْ أذانًا = أهلُها منذ قرونْ؟
ولا تعجبْ من ذلك، فصوت الأذان عند إقبال ليس يضاهيه لحن آخر، وهو القائل:
ليس في ضوضاء هذي الأممِ = نغمة إلا أذان المسلمِ
ويورد إقبال ترجمة لأبيات عبد الرحمن الداخل مؤسس الدولة الأموية في الأندلس، الذي أمضَّتْه الغربة عن بلاده، وأرهقه البين عن الأهل والأحبة، ثم أثارت نخلة غريبة كوامن نفسه فقال:
تبدَّت لنا وسْط الرصافة نخلةٌ = تناءت بأرض الغرب عن بلد النخلِ
فقلتُ شبيهي في التغرُّب والنَّوَى = وطول افتراقي عن بنيَّ وعن أهلي …الخ
ثم يكتب إقبال تكملة للأبيات، فيضفي عليها نفَسا إسلاميا، وعمقا فكريا، ويضمِّنها إشارات إلى نهاية الدولة الإسلامية في الأندلس، التي شهد عبد الرحمن الداخل بدايتها. يقول إقبال في تكملته للأبيات:
وما ضرَّنا ملك تركناه خلفنا = فكل بلاد الله ملك ذوي العدلِ
سنبني كما كنا بنينا لغيرنا = وحاشا لأهل الجود تُوصَم بالبخلِ
إذا نضبتْ أجسادنا من دمائنا = فمنزلنا ريَّانُ من غدَق البذلِ
ستذكرنا الدنيا وتندبنا الورى = وتطلب في آثارنا كعبة الفضلِ
يقال هنا صلَّتْ وضجَّتْ قلوبهم = هنا انتبذت أرواحَها رسُلُ النخلِ
ولا ينسى إقبال أن يكتب قصيدة وهو يودع مسجد قرطبة، فيبث فيها خلاصة أحزانه وحسرته على الماضي الضائع والحاضر البائس:
صوت المنائر في نسيمك يرقدُ = وصداه في أرواحنا يترددُ
يا توأم الحرم الشريف تطوَّفت = بك ركَّع من عاكفين وسجَّدُ
سيماك من أثر السجود على الثرى = طرب يفوح ونضرة تتجددُ
خمدت حقيقتنا وزال بريقنا = وبريق قرطبة الشريد مخلَّدُ
ووقفتُ لا نومي حمدتُ ولا السُّرى = أتكبد الجرح الذي أتكبدُ
تلكم زفرات قلب مفجوع على تاريخ أمة غافلة، بلغ بها التفريط فيه أن أصبح اليهود يفخرون به ويسرقونه، كما يخططون الآن لسرقة المسجد الأقصا بأساطير تاريخية هزيلة .. فهل نظل ندرِّس أبناءنا أمجاد نابليون، وننسى مسجد قرطبة؟؟!!