تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

مقال مخاض المجتمع بقلم الدكتور عبد الكريم بكار (رائع جدًا)

ـ[خالد محمد المرسي]ــــــــ[18 Nov 2010, 08:46 ص]ـ

مقال مخاض المجتمع بقلم الدكتور عبد الكريم بكار

ليست الجهالة بما تأتي به الأيام شيئاً جديداً على الوعي البشري، بل هو الشيء المألوف و المتوقع، و على مدار التاريخ كان الإنسان مستعداً للتكيف مع الظروف و المعطيات الجديدة، و بما أن التغير كان بطيئاً جداً، فإن توقع ما سيكون لم يكن صعباً، كما أن المطلوب من التأقلم كان محدوداً، لكن كل هذا قد تغير اليوم على نحو يولِّد الدهشة.

و من الواضح جداً أن التطور التقني الحادث اليوم قد جعل الواحد منا و كأنه يخالط نماذج من كل البشر، و يطلع في آن واحد على كل الأفكار و المفاهيم و العقائد الموجودة لدى كل الملل و النحل، و هذا يشكل دفقاً ثقافياً يصعب على الوعي البشري التعامل معه و تمييز غثّه من سمينه، و هذا يجعلنا نقول: إن مجتمعاتنا العربية و الإسلامية هي فعلاً اليوم في حالة مخاض، و لا ندري بالضبط ما الذي ستكون عليه أوضاعها المختلفة بعد عشر أو عشرين سنة،

و هذا شيء يبعث على القلق، و يجعلنا نعاني من ضعف اليقين تجاه العديد من الأمور، و لعلي أشير إلى بعض ما أهجس به عبر الحروف الصغيرة الآتية:

1ـ لا ينبغي أن نفهم أن ما هو قادم هو مجموعة من الشرور و السلبيات، فقد مضت سنة الله ـ تعالى ـ في ابتلاء خلقه أن تأتي المشكلات و الأزمات، و معها بعض طرق حلها و التعامل معها، كما أنه يكون معها شيء من الخير الظاهر أو الكامن، كما مضت سنته ـ جل شأنه ـ في أن يكون مع الخير و الرخاء شيء من الشر و التحدي، و لهذا فإن ما هو قادم يحتاج إلى انتباه و حذر أكثر حتى نستفيد من خيره، و نتقي شره، و على كل حال فإن طريقة تعاملنا مع الأشياء تؤثر في النتائج أكثر من تأثير طبائع تلك الأشياء.

2ـ حين يقل العلم و ينتشر الجهل، فإن من السهل على الناس أن ينظروا إلى ما هو من قبيل الرأي و الاجتهاد الشخصي على أنه حقائق و مسلمات غير قابلة للنقاش، و هذه النظرة هي السبب المباشر في انتشارالتقليد

و التعصب و الجمود الذهني و الثقافي، أما اليوم فإن الناس يطلعون على كل ما يُقال و حول كل شيء، و هذا فيه إيجابية واضحة، هي الاندفاع نحو التجديد و توسيع الأفق و التخلص من تقديس الأشخاص و الأقوال، لكن السلبية التي بدأنا نلمسها اليوم هي ظن كثير من المثقفين أن في إمكان كل واحد منهم أن يقول ما شاء فيما يشاء، و هذا كان واضحاً جداً تجاه العديد من الفتاوى اللافتة للنظر، و كأنه ليست هناك قطعيات يتفق عليها أهل العلوم المختلفة، و لا مرجعيات تفصل في الأمور المتنازع فيها، و هذه سلبية كبيرة في نظرنا؛ لأنها تبلبل أذهان الناس، و توقعهم في المزيد من الحيرة، لكن ليس هناك علاج حاسم لهذه المشكلة، سوى نشر ثقافة احترام التخصص و ثقافة الإعراض عن أولئك الذين يتحدثون في كل شيء دون أن يتقنوا أي شيء!

3 - الناس اليوم -و بسبب من الاطلاع الواسع على ما يجري، و على ما هو سائد في العالم- أخذوا يعيدون اكتشاف الكثير من الأشياء، و يعيدون تقييم نظرتهم لأنفسهم و واقعهم و ماضيهم، و لا يخفى أن نظرة الناس إلى ما كنا نطلق عليهم الأسلاف العظام و الأئمة الأعلام قد تغيّرت، حيث يتبلور اليوم اعتقاد جديد يقول: إن السلف السابقين كانوا يرون الأشياء من واقع خبرة أقل من الخبرة المتوفرة اليوم، كما أن التراكم المعرفي الذي كان في زمانهم أقل بما لا يُقارن مما في حوزتنا اليوم، و لهذا فإن من المتوقع أن يمثل السابقون طفولة الوعي، و أن نمثل اليوم شبابه،

و هذا الاعتقاد يتجلّى في الجرأة القوية على الاجتهاد، كما يتمثل في الاستشهاد المكثف بأقوال الفلاسفة و علماء معاصرين و غير مسلمين ينتمون إلى كل بلاد العالم و كل ألوان الطيف، و هذه الوضعية تعني الكثير و الكثير،

و سيكون لها آثار كبيرة، من أهمها تشكل رؤية جديدة للحياة و للمستقبل الدنيوي والأخروي، و هذه الرؤية ستعتمد على مجموع رؤى العالم لذلك المستقبل، و لن تكون المذهبية الإسلامية سوى أحد المكونات القوية لتلك الرؤية، على حين أن المذهبية الإسلامية كانت تنفرد في الماضي بتشكيل معظم طموحات الناس و معظم نظراتهم للواقع و المستقبل.

4ـ اتساع كل جوانب الحياة العامة، و تعدّد المعطيات و وجود عدد هائل من الأقسام و التفاصيل في كل شيء و لكل شيء سوف يجعل كل ما لدينا من نصوص و حكم و أقوال مأثورة غير كافٍ لتوفير مرجعية كاملة و كافية، و هذا سيدفع إلى التوسع في الاجتهاد و الاقتباس من الثقافات الأخرى، و لهذا مخاطره التي لا تخفى؛ إذ لا يكفي أن تؤمِّن مرشدات لتوجيه حياتك اليومية، بل عليك إلى جانب ذلك أن تحافظ على الاتجاه الإستراتيجي، و تبقى على تواصل مع أهدافك الكبرى، و هذا ليس بالسهل في ظل ما أشرنا إليه، و في ظل تجاهله من قبل عدد كبير من المؤثرين في الرأي العام.

أعتقد أننا لا نبذل ما يكفي من التأمل و البحث و الدرس في مآلات التحوّلات العاتية التي باتت تجتاح كل شيء، و إن فرص الاستدراك ما زالت موجودة،

و إن علينا أن نفعل ذلك.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير