ومسجد قرطبة لا بواكيَ له!!
ـ[أبو سعد الغامدي]ــــــــ[10 Oct 2010, 09:56 م]ـ
بقلم: محمد الشنقيطي
مدير المركز الإسلامي في تكساس
دفعني الفضول وحب الاطلاع إلى استعارة مجموعة أشرطة فيديو من إحدى المكتبات الأمريكية العامة. تضمنت هذه الأشرطة برنامجا وثائقيا عنوانه "الحضارة واليهود"، وهو من إعداد وتقديم "أبا أيبان" وزير خارجية الدولة اليهودية في السبعينات، وأحد المثقفين الذين يفخر بهم اليهود في كل مكان. ولفتت نظري فقرة من البرنامج سجلها "أيبان" - وهو منفعل انفعالا واضحا - في ساحة "الحمراء" وبين أعمدة مسجد قرطبة في اسبانيا.
وشدد المثقف اليهودي على دور اليهود في الحضارة الإسلامية في الأندلس، مشيدا على وجه الخصوص بالفيلسوف موسى بن ميمون الذي يدعوه اليهود "موسى الثاني"، مشيرين إلى أنه لا أحد أثر في تاريخهم بعد النبي موسى عليه السلام، مثلما أثر ذلك الفيلسوف الأندلسي.
إن مسجد قرطبة الذي حوله الصليبيون الأسبان إلى كنيسة، لا تزال منارته وقبته شامختين حتى اليوم، ولا تزال جدرانه الداخلية مزينة بآيات القرآن الكريم، شاهدة على عمق الفجيعة، وعلى أمجاد دارسة خذلتها مطامح ملوك الطوائف، وطمستها ثقافة الاستعمار الدخيل ..
وإذا كان مثقف يهودي يبكي أطلال قرطبة، لمجرد مساهمة هامشية من بعض الوزراء أو الأطباء أو الكتاب اليهود .. فليت شعري كم يلزمنا من البكاء وذرف الدموع على تلك الأرض التي أنجبت رجالا من أمثال الشاطبي والقرطبي وابن عبد البر وابن خلدون وابن رشد وابن مالك وابن العربي وابن عاصم وابن جزي .. وسواهم من عمالقة العلم والتقوى والجهاد؟؟!!
إن آلاف المسلمين نكلت بهم أيدي الصليبيين ومحاكم التفتيش في الأندلس، وهرب الملايين منهم إلى المغرب العربي .. وقد أطلق الأسبان على أولئك الهاربين "موريسكوس" وهي نفس الكلمة الفرنسية "مور" التي اشتق منها اسم "موريتانيا" أي بلاد "المور". وليست تسمية "المور" – بالمناسبة – من ابتكار الأسبان، وإنما هي ضاربة في القدم، يربطها نسب وثيق مع "وادي مور" في اليمن.
لكن ذاكرتنا التاريخية طمسها جهل القرون، ودمرها تشبثنا بقشور من ثقافة مستعمر حاقد، لا يكتفي باستعباد الشعوب، بل يريد إخراجها من جلدها.
لقد ذكرني برنامج "الحضارة واليهود" بآلاف المسلمين الذين يتوافدون على اسبانيا يوميا من المغرب العربي وشمال إفريقيا، وهم لم يسمعوا اسم "الحمراء" ولا "مسجد قرطبة"!! ولا يعرفون شيئا عن الأندلس. فيبس حلقي من المرارة، وتوقفت أنفاسي من التحسر .. ولم أجد عزاء إلا في أبيات جميلة بعنوان "مسجد قرطبة"، علقت في الذهن منذ مدة، وهي للفيلسوف والشاعر الباكستاني محمد إقبال، كتبها لما زار الأندلس مطلع القرن العشرين.
تضمنت قصيدة محمد إقبال وصفا بديعا لجمال الفسيفساء الإسلامية في المسجد، والتي برع فيها الأندلسيون أيما براعة. ولم ينس إقبال أن يربط بين الحضارة الأندلسية وامتدادها في الزمان (روح الإسلام) وفي المكان (الحجاز والشام واليمن):
قصر التاريخ ومسجدهُ = ما أروع ما صنعتْ يدهُ
للقوم بصدر حكايته = صوت ما زال يردِّدهُ
ظمأ لا رِيَّ له وبه = طلب الظمآن ومقصدهُ
يزداد برؤيته ولَهًا = ويريد يقوم فيقعِدهُ
وكأن علائق زينته = خفقات القلب ومعقدهُ
في الصخر فنون سرائرنا = بلطائفنا نتعهدهُ
ليَهيج رنينُ جوانبه = بأنين الروح نُزوِّدهُ
يا ظل الغرب ودوحته = من ذا تاريخك يجحده؟
بك أضحت تربة أندلسٍ = حرما في الغرب نمجِّده
لا نِدَّ له في سؤدده = إلا الإيمان وسؤددهُ
عربيُّ اللحن حجازيٌ = روح الإسلام تخلِّدهُ
يمنيُّ العطر تهبُّ به = أنسام الشام وتحشدهُ
ولم ينس إقبال أن يقارن بين جمال الفسيفساء في المسجد وجمال النفوس المؤمنة التي أبدعت تلك الفسيفساء، فما ذاك إلا انعكاس لهذا. وفي المقارنة تظهر الشفافية الروحية لدى إقبال، وقدرته على وصف الأرواح المؤمنة، وتصوير التكامل في الشخصية الإسلامية في أبيات قليلة، بشكل لم يستطعه كثيرون في مجلدات:
يحكيك جمالا وجلالا = رجلٌ لله تعبُّدهُ
وحماسُ ضحاه ووجدُ مساه = وما يخفيه له غَدهُ
ومسرَّته ومحبَّته = وتواضعه وتودُّدهُ
عذب الكلمات خفيف الروح = رقيق القلب مسهَّدهُ
¥