وقد سبرت مسارات طلب العلم لدى العلماء، وكيف أصبحوا علماء وأئمةً يقتدى بهم؛ فوجدت لهم في ذلك طرقاً متنوعة تنبيك عن سعة رحمة الله تعالى وفضله، فسلك كلٌّ منهم ما يسره الله له مما يوافق ما أنعم الله به عليه من مَلَكَات وإمكانات، وفتح له فيه فوصل وأفلح، وسأجمل أهم تلك المسارات فيما يلي:
المسار الأول: مسار الملازمة
وكان هذا المسار هو الشائع في القرون الأولى فكان طالب العلم يلازم شيخه فيتعلم منه العلم والعمل والهدي والأدب؛ فيمكث عنده ما شاء الله أن يمكث حتى إذا قضى شيخه نحبه، أو قضى هو منه نهمته، وطمع في المزيد انتقل إلى شيخ آخر يلازمه فلا يزال يزداد من العلم والخير سنوات من عمره حتى يبلغ مبلغاً يُعرف له فيه قدره فيلازمه طلاب العلم كما لازم هو أشياخه فيعلمهم ويحدثهم.
وفي عصرنا هذا أصبحت الملازمة عسيرة المنال كثيرة العوارض لما تقتضيه الحياة المدنية، وأصبح تفرغ العلماء للتدريس ليس كحال من سبق في الأعم الأغلب، وقد يسر الله لنا من سبل الاتصال ووسائل الانتقال ما تدرك به بعض فضائل الملازمة، ومنها الملازمة الإلكترونية بأن يلازم عن طريق شبكة الانترنت عالماً موثوقاً في علمه فيسترشد به في طلبه للعلم، ويسأله عما يشكل عليه ويستفيد من توجيهه وإرشاده حتى تتبين له مسالك الطالب، ويعرف ما يلائمه منها فيعتني به ويجتهد فيه.
وقد أقام عدد من العلماء مواقع لهم في شبكة الانترنت لتعليم العلم النافع فمن تعسرت عليه الملازمة الأصلية فلا تفوتنه الملازمة الإلكترونية.
المسار الثاني: مسار المتون العلمية
وهذا المسار قد شاع في القرن الخامس الهجري وما بعده، وإن كانت له بدايات يسيرة قبله، لكن شهرته ذاعت في ذلك القرن ثم لم يزل هذا المسار شائعاً معتمداً لدى كثير من أهل العلم إلى عصرنا الحاضر حيث اتخذه كثير من العلماء منهجاً موصلاً إلى حسن التحصيل وقوة التأصيل حتى تخرَّجَ به عدد كبير من العلماء، ذلك أن المتون العلمية تجمع لطالب العلم في كل فَنٍّ لُبَّ مسائله، تجمع شتاتها بألفاظ مختصرة، وتقسيمات معتبرة، تقرب البعيد، وتجمع المتفرق، فيتناولها العلماء بالشرح والتفسير، والبيان والتحرير، حتى يذلّ صعبها، ويتضح مشكلها، وينفتح بها للطلاب أبواباً عظيمة من العلم النافع، ولايزالون يتدرجون في مدارج تلك المتون حتى يبلغوا مبلغاً عظيماً من العلم، وقديماً قيل: (من حفظ المتون حاز الفنون)، وإنما ينتفع بالحفظ من فهم ما يحفظ، فلذلك كثرت شروح العلماء على المتون واشتهرت.
وعمدة الماتنين (الذين يؤلفون المتون) أنهم يختصرون كتاباً مهماً في فن من الفنون أو يكون مختصرهم مستفاداً من كتب كثيرة في ذلك الفن فيجمع لطالب العلم مباحثها، ويصنفها تصنيفاً يناسب المتعلمين، وبعضهم يعمد في ذلك إلى النظم لتيسير حفظه على طلاب العلم.
المسار الثالث: مسار الكتب الأصول
لكل علم مصادره وأصوله المعتبرة لدى أهل العلم، وله أئمته المحققون المشهود لهم بالإمامة والتقدم فيه، ولهم من المؤلفات والمرويات في ذلك العلم ما عرف لهم أهل العلم فيه مقامهم الرفيع، وقد كتب أئمة كل علم كتباً صارت عمدة كثير من العلماء فأقبلوا عليها إقبالاً عظيماً، ولا يزالون ينهلون منها جيلاً بعد جيل.
ومن قرأ سير العلماء وجد منهم عناية فائقة بأمهات الكتب بالمدوامة على قراءتها، وتكرار مراجعتها، واستظهار مسائلها، واستحضار دلائلها، وقراءتها على الشيوخ، وإقرائها للطلاب، حتى كثرت الحواشي على تلك الكتب واشتهرت، وزادتها تحريراً وتحبيراً، وزانتها بالفوائد والتقريرات واللطائف والتنبيهات.
وقد تنوعت اختيارات العلماء للكتب الأصول في كل فن من فنون العلم، وبينها من التفاضل في المزايا ما اقتضى تنوع الاختيارات بيد أنها تشترك في أغلب مباحثها، وتتضمن أصول المسائل وعُمَد الدلائل في ذلك العلم.
وكلام أهل العلم في التنبيه على بعض هذه الكتب كثير مشتهر.
قال ابن فرحون المالكي: (لا زمت تفسير ابن عطية حتى كدت أحفظه).
ونقل القاضي عياض عن ابن التبان أنه قرأ المدونة أكثر من ألف مرة.
والكافيجي شيخ السيوطي لقب بذلك بسبب كثرة اشتغاله بكتاب الكافية لابن الحاجب قراءة وإقراء.
وأخبار أهل العلم في هذا الشأن كثيرة مشتهرة.
المسار الرابع: مسار العلماء المحققين
¥