قلنا: إن للإعراب تأثيرا في توجيه المعنى العام، كما أن للمعنى العام تأثيرا في معرفة الإعراب، وهذا قول لا يمكن فهمه إلا بضرب الأمثلة.
فمن تأثير الإعراب في توجيه المعنى نأخذ قوله تعالى: (وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم يقولون آمنا به كلّ من عند ربنا) ().
إن المعنى العام يتوقف على المعنى النحويّ لكلمة (الراسخون) وهي تحتمل معنيين نحويين أو وجهين إعرابيين، فقد تكون مبتدأ، وقد تكون معطوفة على لفظ الجلالة، فعلى الوجه الأول يكون المعنى العام أنّ الراسخين في العلم لا يعلمون تأويل المتشابه، وعلى الوجه الثاني يكون المعنى أنهم يعلمون تأويله.
ومن تأثير المعنى العام في توجيه الإعراب نأخذ قوله تعالى: (شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولو العلم قائما بالقسط لا إله إلا هو العزيز الحكيم) ().
فكلمة (الملائكة) تبدو في ظاهر اللفظ وكأنَّها معطوفة على الضمير (هو). ولكن المعنى العام للآية يمنع ذلك. ففي الآية تقديم وتأخير، والتقدير: (شهد الله والملائكة وأولو العلم أنه لا إله إلا هو قائما بالقسط "، فالمعنى العام للآية هو الذي جعلنا نعرف أن كلمة (الملائكة) معطوفة على لفظ الجلالة.
ولكن قد يرد على ما ذهبنا إليه أنّ عامة الناس يفهمون المعنى العام للجملة دون أن يعرفوا المعنى النحويّ للكلمات فيها، أي: دون أن يعرفوا إعراب كلّ كلمة منها، فنقول: إنهم يدركون المعاني النحويّة لمفردات الجملة، ولكن لا يعرفون المصطلحات النحويّة التي تميز هذه المعاني، ومعرفة المصطلحات النحويّة ليس شرطا لمعرفة المعنى العام للجملة، لذلك يجب علينا أن نفرق بين المعنى النحويّ للكلمة وبين المصطلح الذي يدلّ على هذا المعنى. فالمعنى النحويّ يدركه الأميّ فضلاً عن المتعلم، وإلا لما استطاع التفاهم مع غيره، فإن قال قائل: فما فائدة هذه المصطلحات ما دامت معانيها تُدرَك بالفطرة؟ قلنا: وضع العلماء هذه المصطلحات بأحكامها المعينة لحفظ اللغة ونظامها، ولتُفهَم بعد حين كما فهمها الأوائل، نعم لو كان بالإمكان أن يستمرَّ العرب على سليقتهم اللغوية التي كانت لهم أيام نزل القرآن، ولو استطاع غير العرب أن يفهموا هذه اللغة مباشرة دون تعلم، كما يفهمها العرب أنفسهم لما وجدت حاجة إلى وضع هذه القواعد والأصول، وتقييد هذه الحدود والتعريفات، وإطلاق هذه التسميات والاصطلاحات، أما والأمر غير ذلك، فإنه لم يكن بدّ مما قام به العلماء من دراسة اللغة وإرساء قواعدها، وبيان نظامها.
والدليل على أن المعاني النحويّة يدركها الناس جميعا ما رواه ابن جني في الخصائص حيث قال: (وسألت الشجري () يوما فقلت: يا أبا عبد الله، كيف تقول: ضربت أخاك؟ فقال: كذاك. فقلت: أفتقول: ضربت أخوك؟ فقال: لا أقول (أخوك) أبدا. قلت: فكيف تقول: ضربني أخوك؟ فقال: كذاك. فقلت: ألست زعمت أنك لا تقول (أخوك) أبدا؟، فقال: أيش ذا! اختلفت جهتا الكلام.
فهل هذا في معناه إلا كقولنا نحن: صار المفعول فاعلا؟) ()
فهذا الأعرابي أدرك بطبعه معنى الفاعلية والمفعوليَّة دون أن يعرف أن الفاعل مرفوع وعلامة رفع الأسماء الستة هي الواو، وأنّ المفعول منصوب وعلامة نصب الأسماء الستة هي الألف.
ونختم حديثنا عن العلاقة بين المعنى والإعراب بالإجابة عن سؤال يتردد كثيرا، وليس له جواب مقنع، وهو: هل الإعراب فرع المعنى أو المعنى فرع الإعراب؟ والحقّ أنّ الجواب عن هذا السؤال يتوقف على المراد من الإعراب، كما يتوقف على نسبة ذلك إلى المتكلم أو المخاطب، واعتمادا على اختيارنا لتعريف الإعراب بأنه المعنى النحويّ للكلمة في الجملة. يمكن القول: إن الإعراب يتبع المعنى بالنسبة للمتكلم، فالإعراب عنده فرع للمعنى، أمّا المخاطب فإن المعنى عنده يتبع الإعراب، فالمعنى عنده فرع للإعراب، بمعنى أنه ناتج عنه، وقد أدرك ذلك ابن جني، وإن لم يصرِّح به، فعندما قال عن الإعراب: (هو الإبانة عن المعاني بالألفاظ) كان يقصد بذلك بيان معنى الإعراب بالنسبة للمتكلم، وعندما أراد أن يعرفه بالنسبة للمخاطب ضرب مثالا فقال: (ألا ترى أنك إذا سمعت: أكرم سعيد أباه، وشكر سعيد أبوه، علمت برفع أحدهما ونصب الآخر الفاعل من المفعول ولو كان الكلام شرجا واحدا لاستبهم أحدهما من صاحبه) ().
والدليل على ما ذهبنا إليه أن المعنى العام بالنسبة للمتكلم يتولد في الذهن أولا، ثم إذا أراد نقله إلى المخاطب عبر عن ذلك بكلمات، وأعطى كلّ كلمة معنى نحويا خاصا، أماالمخاطب فإنه لا يدرك المعنى العام إلا بعد إدراكه لمعاني الكلمات اللغوية ومعانيها النحويّة.
مع التحية الطيبة.
ـ[جمال الهراج]ــــــــ[10 - 05 - 2007, 01:55 م]ـ
لعل ما أتحفتنا به أخي هو تحرير لمحل النزاع فيما اختلف فيه جزاك الله عنا خير الجزاء
ـ[خالد مغربي]ــــــــ[10 - 05 - 2007, 01:57 م]ـ
أحسنت أستاذنا الأغر، أمسكت بالعصا من المنتصف هنا سلمك الله
فالعلاقة بين الإعراب والمعنى علاقة تلازم، فكأن أحدهما يوجه الآخر ..
أخي أحمد الفقيه، ها قد أنصفك الأغر
شكر الله سعيك الحثيث إلى لجة العلم وذاك واضح في مشاكستك للسليمان وفقه الله فرفقا به وبنفسك
تحياتي
¥