وهنا أريد أن أنبه إلى أمر قد لا يفهم من كلامي السابق، وهو أني عندما قلت ويكون في البيت إقواء إنما أردت أن البيت يكون فيه إقواء في الأصل، يعني الأصل أن يكون البيت برفع العالم، ولكن الشاعر جره لأن دانيا على صورة المجرور والقرابة قبله مجرورة فكسر تبعا للفظيهما فانتفى الإقواء بذلك، وكذلك أقصد بقولي (فحسن الإقواء) أي فحسن التحول من الرفع إلى الجر، فيكون الخلاف بيننا أني أحكم بأن الأصل هو رفع عالم ولكنه جره لجر مجاوره كبقية الأبيات التي أوردتها، فانتفى الإقواء، وأنت تحكم بأن الأصل في عالم أنه مجرور تبعا للضمير في به فليس في البيت إقواء في الأصل، فاحكم بعد ذلك أي الرأيين أولى بالاتباع: الجر بالجوار مع كثرة شواهده ومع بقاء معنى البيت على ما كان عليه ظاهره من حيث كون دان وعالم وصفين لطالب أم إبدال الوصف المنكر من الضميرمع ندرة شواهده وتحول معنى البيت عن ظاهره بحيث يكون دان وعالم وصفين بدلا من الضمير في به، مع ما يثيره الأمر من أن المبدل منه غير مقصود بالحكم في الغالب، والضمير هنا مقصود بالحكم؟ أو وازن بين قولك:
أناخ إليكم طالب دان عالم بالقرابة نأت به الدار، وبين قولك: أناخ إليكم طالب نأت به الدار نأت بدان عالم بالقرابة، ثم احكم أيهما أولى بالدلالة على المراد؟
أما بيت الفرزدق في رثاء الحجاج فلا يصح ما ذهبتم إليه فإن المراد: ليبك على الحجاج كل من يهتم لأمر دينه وكل شار بائع نفسه في سبيل الله واقف على الثغور يدافع عن أرض الإسلام وكل يتيم فقد العائل، بمعنى أن الحجاج سيفتقده الحريصون على دينهم والشراة على الثغور والأيتام، أي أن الحجاج كان يهتم بأمر إقامة أحكام الدين وكان ينفذ الجند إلى الثغور ويرتب لهم المعاش ويكفل الأيتام ويجري عليهم الأرزاق، فحق على هؤلاء أن يبكوه بعدما مات، ومن تلمس معنى آخر للبيت فليس بمصيب وإن حظي من الشهرة بأوفر نصيب:)
وأما وجود رواية أخرى فلا يعني أن هذه الرواية غير صحيحة بل هي رواية الديوان، وكل رواية تعد شاهدا، فكم من أبيات الشواهد لها روايات لا يتحقق معها المطلوب ومع ذلك لم يمنع ذلك من الاستشهاد بها.
نقل الدكتور محمود الطناحي عن شيخه محمود شاكر رحمهما الله أنه قال في رأي أبي العلاء في بيتي الفرزدق:
فهل أنت إن ماتت أتانك راحل ... إلى آل بسطام بن قيس فخاطب
وإني لأخشى إن رحلت إليهم ... عليك الذي لاقى يسار الكواعب
يريد أبو العلاء أن يرفع الإقواء فتكلف تكلفا.
وكان أبو العلاء يقول: اراد فخاطبهم خطابا، أي أن خاطب فعل أمر.
مع التحية الطيبة.
ـ[حازم إبراهيم]ــــــــ[13 - 10 - 2007, 03:13 ص]ـ
أحبتى فى الله بارك الله فيكم جهدكم النافع، وتكبدكم عناء البحث التماسا للحقيقة النافعة، لكنى أرى- ولا رأى لى -أن المسألة قتلت بحثا وقد اقتنعت بما يشفى غلتى، وقد زاد النافذة بهاء ذلك الأريب الأغر بهى الطلعة قوى الحجة؛ فقد لملم ما انطبخ فى عقولنا وأخرجه لنا لقاحا مفعما بنور العلم، كذلك شكرى العظيم لأخى المعشى الذى طالما أشعل جذوتنا، فكان أورى من الزند، يحرك أفكارنا ويهمزها فيحفزنا إلى البحث والتنقيب، وذلك المغربى لين العريكة الذى طالما تحاملت عليه فاحتملنى، ولا أراه إلا باحثا عنيدا وراء الحقيقة، جعل الله أيامكم أعيادا.
ـ[علي المعشي]ــــــــ[14 - 10 - 2007, 04:00 ص]ـ
السلام عليكم ورحمة الله
شيخنا الجليل الدكتور الأغر
ثمة عشرة أمور أوردها ابن هشام ـ رحمه الله ـ في المغني مما قد يرتكبه المعرب فيؤخذ عليه، وهأنذا أنقل منها ما يتعلق بمسألتنا ليس لأتحفكم بها لأنكم تعرفونها حتما، ولكني أنقلها لمن شاء أن يبلو بها التقديرين اللذين يؤول إليهما معنى البيت على كل من الوجهين (البدلية والوصفية). لذلك سأنقل التقديرين بنصهما كما وردا في قول شيخنا الأغر:
وازن بين قولك: أناخ إليكم طالب دان عالم بالقرابة نأت به الدار،
وبين قولك: أناخ إليكم طالب نأت به الدار نأت بدان عالم بالقرابة،
ثم احكم أيهما أولى بالدلالة على المراد؟
أراد الشيخ بالقول الأول: (الوصفية مع الجر على التوهم أو الجوار) وهو الراجح عنده.
وأراد بالثاني: (البدلية مع الجر على الإتباع المعتاد) وهو المرجوح عنده.
والمعنيان متقاربان وليس لقائل أن يقول بفساد أحدهما فالمعنى العام واحد. أما ترجيح أحد التقديرين على الآخر فلا يخضع للمعنى وحده بل يجب ترجيح التوجيه الذي يجمع بين المعنى والصناعة النحوية؛ لذلك يحسن عرضهما على بعض ما حدده ابن هشام من مزالق قد يقع فيها المعرب لنرى أي التقديرين يسلم منها ليكون راجحا، وأيهما ينطبق عليه جلها فيستحق أن يكون مرجوحا:
من المغني لابن هشام:
" ... الباب الخامس: في ذكر الجهات التي يدخل الاعتراض على المعرب من جهتها وهي عشر:
الجهة الأولى: أن يراعي ما يقتضيه ظاهر الصناعة ولا يراعي المعنى.
الجهة الثانية: أن يراعي المعرب معنى صحيحاً، ولا ينظر في صحته في الصناعة.
الجهة الرابعة: أن يخرج على الأمور البعيدة والأوجه الضعيفة، ويترك الوجه القريب والقويَّ، فإن كان لم يظهر له إلا ذاك فله عذر، وإن ذكر الجميع فإن قصَدَ بيان المحتمل أو تدريب الطالب فحسنٌ.
الجهة الخامسة: أن يترك بعضَ ما يحتمله اللفظ من الأوجه الظاهرة ... " اهـ.
بعد عرض الوجهين على ما سبق يمكن لكل بصير أن يرجح الوجه الأحسن دون فرض رأي وإنما يرد القول بالحجة والإقناع.
هذا وتقبلوا أزكى تحياتي.
¥