[النحو واللحن]
ـ[سعد حمدان الغامدي]ــــــــ[03 - 05 - 2008, 08:20 م]ـ
[النحو واللحن]
يظنّ الكثيرون أنّ النحو وضع للحدّ من ظاهرة اللحن التي غزت اللغة الفصحى، وكان سببُها اختلاطَ العرب بسواهم من الأمم الأعجمية بعد الفتح الذي مَنّ الله به على الأمة في عهد الخلفاء الراشدين ومن بعدهم.
ولكن هذا لا يصحّ لعدة أمورٍ منها:
أوّلاً: أنّ اللحن الذي يمكن أن يكون من أثر الاختلاط بالأعاجم لم يكن في إهمال الحركة الإعرابية الملائمة للموضع الإعرابي فحسب بل كان فيها وفي حركات البنية وفي الأصوات، وهذه ليست من النحو بالنظر إلى اهتمامه بالعلامة الإعرابية وبقضايا التركيب المتصلة بذلك، وذلك في كتبه المدرسيّة، وكذلك كان هناك لحن في ترتيب الكلمات داخل التركيب، وهذا لم يهتم به النحو إلاّ عرضاً، فالنحو لم يبحث في أبواب مستقلّة مسائل التقديم والتأخير والحذف والإضمار وغيرها.
ثانيا: أن ما يدّعى من اللحن في تلك الروايات يلحظ فيه أمور:
1 - أنها ليست سوى لحن منسوب إلى أفراد بعينهم، ولا يشكل ظاهرة خطيرة على اللغة.
2 - إمكان تخريج كثير ممّا عد لحنا على مذهب من مذاهب العرب في كلامها، أو على ما تقتضية طبيعة التطور اللغوي.
3 - بروز الصنعة والتكلف بل والكذب في الروايات كما في قصّة الأعرابي وآية سورة التوبة.
ثالثاً: أنّ النحو لم تحتج إليه العرب، ولم يؤثر في لغتها وهاهم الشعراء يعتصمون بقولة الفرزدق: علينا أن نقول وعليكم أن تتأوّلوا، بل إن النحو كان حاجة للأعاجم لتعلّم اللغة، وعلى ذلك أدلة مما ورد في أقوال بعض العلماء من مثل النحو صنعة الأعاجم، وقد مرّ أحد العلماء على جماعة من الموالي وهم يتباحثون في النحو فقال قولة مشهورة سارت بين العلماء، وهي: إنهم يتكلمون في كلامنا بكلامنا بما ليس من كلامنا، أو كما قال.
رابعاً: أنّ الأعاجم جعلوا النحو وسيلة من وسائل تعلم اللغة وليس وسيلة للتغلب على اللحن، فتعلموا اللغة وبقي اللحن على ألسنتهم؛ إذ كان كثير منهم يرتضخون الأعجمية في كلامهم، وإن كانوا أحسنوا القراءة والكتابة والفهم للنصوص ومن ثم التفكير فيها والاستنتاج منها بما عدّ علامات باهرة في تاريخ ثقافتنا العربية والإسلامية.
خامسا: أنّ النحو لم ينجح في منع العرب من أمرين حدثا تحت سمع النحو وبصره وهما: التخلّي عن الفصحى واصطفاء العامّية في لغة الخطاب بالتدريج، بل وصل الأمر إلى الشعر الذي نراه وقد تلبسته لغات عامية عبر عصور العربية من قديم إلى اليوم، ومعلوم أنّ هذا نجم في القرون التي بلغ النحو فيه الغاية من التمام والكمال، وهكذا يتغلب أحد مستويي الأداء على الآخر، ومعلوم أن هذا ليس بسبب الأعاجم ولا بسبب اللحن ..
سادسا: أنّ مكافحة اللحن في أواخر الكلمات أو في بنيتها أو في التراكيب لا يكون بالنحو ولا الصرف ولا بعلم من علوم اللغة الأخرى، وإنما تكون بالتمرين المستمر على الكلام بالفصحى وبقراءة نصوصها من قرآن وحديث وشعر ونثر، وهذا ظاهر في صنيع الشعراء والكتاب الذين كانوا في غاية الفصاحة والبلاغة دون كبير إلمام بالنحو أو غيره من علوم اللغة.
سابعا: أنّ العرب الفصحاء ومن تكلّم بالفصحى فيما بعد في عصور ازدهار النحو وما بعدها لم يكن النحو هاديا لهم أو مرشداً إلى الفصحى بل جعله كثير منهم دبر أذنه ووراء ظهره.
ثامنا: أن الاهتمام بالنحو كان من قبل العلماء الذين ألفوا في التفسير وذلك تبعاً لفعل أبي عبيدة في مجاز القرآن عندما أقحم النحو في كتابه، وجاء الأخفش والفراء وجماعة فزادوا من إدخال النحو التفسيرَ حتى غدت نصوصهم وأقوالهم محل النظر والبحث ممن جاء بعدهم فازدهر النحو في هذه الكتب.
تاسعا: أنّ إحياء الفصحى في العصور الحديثة كان أساسه التعليم وإحياء التراث الفصيح وطباعتة والكتابة بالفصحى في الجرائد والمجلات وكتابة العلوم المختلفة بلسان عربي مبين، وكان الشعراء الفصحاء المعاصرون عالةً على النصوص المطبوعة من الشعر والنثر، أمّا النحو فلم يكن له أثر كبير بل كان مدخلاً صعباً إلى اللغة يستعصي على كثير من الدارسين وبخاصّة كتاب سيبويه، أمّا النصوص الفصيحة فقد شقت طريقها إلى الألسنة والكتب الحديثة بكل سهولة ويسر.
¥