حينما كنت أقرأ حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر)) قالو: يا رسول الله؛ وأي الجهاد الأكبر؟ قال: ((جهاد النفس)).
حتى إذا عشت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحابته في غزوة ((حنين)) , وقرأت قول الله تعالى: {ويوم حنين إذا أعجبتكم كثرتكم فلم تغن عنكم شيئا .. } وعاد المسلمون بعون الله تعالى من هذه الغزوة ظافرين منتصرين , وقام رسولنا صلى الله عليه وسلم يوزع الغنائم , فاختص زعماء القبائل العربية التي أسلمت أخيراً بالقسم الأكبر من الغنائم؛ من أجل أن يتألف بها قلوبهم , فأعطى كل واحد منهم عشرات من الجمال.
عندما رأى الأنصار أن الغنائم قد حجبت عنهم , وانصبت في أيدي قريش وقبائل المنطقة! , وجدوا في أنفسهم ((أخذو على خاطرهم)) , وتناوشتهم الظنون! فراحو يتهامسون بها! , وجد هذا الحى من الأنصار في أنفسهم ,حتى كثرت منهم القالة ((من يقول الكلام الرديء)) حتى قال قائلهم: لقي رسول الله صلى الله عليه وسلم قومه!.
وهنا يجب أن نقف وقفة تأمل وتدبر: كيف تناوشت الأنصار الظنون وهم الذين سبقوا إلى الإسلام؛ فراحو يتهامسون بها حتى كثرت منهم القالة , وهم الذين عادوا من معركة ((حنين)) , ولا تزال الدماء ساخنة؟ فقد كانوا يقاتلون بالسلاح , ويفتدون الإسلام بالمال والأهل , إنه مشهد خطير. لم يكن أحد يتوقعه من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ,
ولكن هذا المشهد في الحقيقة المجردة واقع بشري سوف يتكرر مع الأجيال على مدى الأيام والسنين , إن هذا المشهد المذهل أشد خطورة مما دار في معركة ((حنين)) , فإن معركة ((حنين)) كانت بين المؤمنين والكافرين , وفي هذه الحالة تقوى عزيمة المؤمنين وتشتد أواصر الأخوة والحب بينهم , والتضحية والفداء لنصرة دينهم , أما في هذه الحالة المدلهمة فستكون – لا قدر الله – الحرب بين المؤمنين أنفسهم , وفيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم! ,
{وكيف تكفرون وأنتم تتلى عليكم آ يات الله وفيكم رسوله} ولكن الفتن في ذاتها ليست إلامستغصر الشرر , ولكن الحكيم العظيم هو الذي يطفئها .. إنها فتنة حالقة ليس لها إلا نبى.
ودخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم سعد بن عبادة ((سيد الأنصار)) فقال: يا رسول الله؛ إن هذا الحي من الأنصار قد وجدوا عليك في أنفسهم لما صنعت في هذا الفيء الذي أصبت! , قسمت في قومك وأعطيت عطايا عظاما من قبائل العرب , ولم يكن في هذا الحي من الأنصار منها شيء! فقال عليه السلام: ((فأين أنت من ذلك يا سعد؟)) فقال: يا رسول الله: ما أنا إلا من قومي , فقال عليه السلام: ((فاجمع لي قومك في هذه الحظيرة)).
وهذا مشهد جديد وفريد ((سعد بن عبادة)) سيد الأنصار , يذهب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم؛
فيضع بين يديه الأمر بكل صراحة و وضوح وأمانة وشجاعة , حتى إذا سأله رسول الله
صلى الله عليه وسلم: ((فأين أنت منهم؟)) قال: يا رسول الله ما أنا إلا من قومي.
لم يتنصل سيد الأنصار مما حدث منهم , ولم يوجه إليهم اللوم أو العتاب , ولم يتقرب إلى النبي صلى الله عليه وسلم بالتجريح فيهم , بل قال بالتضامن معهم: ما أنا إلا من قومي؛ إنه موقف الرجولة الفذة , والقيم العالية التي تهز المشاعر والوجدان.
خرج ((سعد)) , فجمع الأنصار في تلك الحظيرة , فجاء رجال من المهاجرين , فتركهم فدخلوا , وجاء آخرون فردهم , فلما اجتمعوا له, أتاه ((سعد)) فقال: قد اجتمع لك هذا الحي من الأنصار لم يتخلى منهم أحد, فأتاهم الرسول صلى الله عليه وسلم فحمد الله, وأثنى عليه بما هو أهله .. ثم قال: ((يا معشر الأنصار؛ مقالة بلغتني عنكم, وجدة وجدتموها علي في أنفسكم؟ , ألم آتكم ضلالا فهداكم الله؟ وعالة فأغناكم الله؟ وأعداء فألف بين قلوبكم؟)) , قالوا: بلى , والله ورسوله أمنٌّ وأفضل , قال: ((ألا تجيبوني يا معشر الأنصار؟)) قالو: بماذا نجيبك يا رسول الله؟ لله ولرسوله المنٌّ والفضل. قال صلى الله عليه وسلم: ((أما والله لو شئتم لقلتم فلصدقتم ولصُدقتم؛ أتيتنا مكذبَاً فصدقناك , ومخذولا فنصرناك, وطريدا فآويناك, وعائلا فآسيناك))
¥