تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

[الإنسان والحيوان!]

ـ[مهاجر]ــــــــ[29 - 03 - 2009, 08:24 ص]ـ

تعارفت قطط الحي عندنا على تقسيم العمارات السكنية تقسيم دول حوض النيل: ماءه، فلكل دولة نصيب، ولكل فيلق من القطط عندنا، إن صح التعبير، عمارة خاصة به، فلا يجرؤ فيلق آخر على دخولها إلا بإذن أصحابها، من القطط طبعا!، ولكلٍ نصيب من بقايا طعام سكان كل عمارة فمن مقل ومن مستكثر.

وكان نصيبنا فيلقا صغيرا تتزعمه قطة بيضاء اللون قد خالط بياضها سواد في الرأس، وهي قطة: مفترية!، بمعنى الكلمة، حتى على رفاقها ممن يشاركونها نفس العمارة.

ويوم الجمعة: قامت تلك القطة بفعلة مقززة، إذ جلبت إلى العمارة: جيفة طائر، أو نحوه، أكرمكم الله، لتتسلى بأكله على سلم المنزل، دون مراعاة لشعور سكان العمارة!، لأنها ببساطة لا تدرك ذلك أصلا، فهي تتصرف بغريزة تلقائية، وقد أثار هذا التصرف مشاعري، فلم أتمالك نفسي، فجئت بكيس لملمت فيه بقية تلك الغنيمة التي لم أعرف كنهها أطائر هي فعلا، أم ضحية من ضحايا المعارك الطاحنة التي تنشب بين تلك الفيالق طوال الليل!، والتي يصل صداها إلى آذان القاصي والداني.

الشاهد أنني لملمت تلك البقايا في كيس، وأنا شديد الغضب من ذلك المشهد، حتى اندهشت أمي الحبيبة، حفظها الله وسددها وبارك في عمرها، من شدة غضبي، ثم ما لبثت أن شاركتني إياه على طريقة الأمهات في الغضب مما يغضب أبنائهن ولو من باب المشاركة الوجدانية!، وكأن من ارتكب هذه الفعلة عاقل تصح مؤاخذته، وقمت بإلقائه في مكان جمع القمامة، وعلى طريقة الموسوسين في الأفلام الكوميدية: قمت برش جزء كبير من سلم العمارة فضلا عن باب شقتنا بنحو نصف عبوة من البيروسول: المبيد الحشري المعروف عندنا في مصر، عافاني الله وإياكم من وساوس الشيطان.

واستمر غضبي حتى بعد تنظيف المكان، ولسان حالي وربما مقالي، توعد تلك القطة بالويل والثبور وعظائم الأمور إذا رأيتها مرة أخرى، وهذا هو الجانب الحيواني، إن صح التعبير، من هذه الصورة.

وأما الجانب الإنساني فهو ما خطر لي أن هدأت ثورتي قليلا، إذ أصابني نوع دهشة من هذا الانفعال الذي زاد عن حده، إذ كيف تصح مؤاخذة كائن لا عقل له، يتحرك بغريزته، رأى ما يشتهي فأقبل عليه بمقتضى فطرته الجبلية التي لا تأنف من أكل الميتة، وهل كلفت القطط بتذكية ما تأكله، وهل تعرف آداب الطعام من تسمية، وأكل باليمين، واستتار عن أعين الناس ......... إلخ.

وهنا تظهر الكرامة الربانية لبني آدم، مصداق قوله تعالى: (وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آَدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا)، لقد كرم الله، عز وجل، بني آدم، بنعمة الآدمية أولا، وتفرع عنها نعم: العقل الذي يعقل صاحبه من ارتكاب الدنايا، والنطق، فلا يقدر غيره على الإفصاح بمكنون صدره من فرح أو حزن، وانظر إلى الطفل الصغير قبل النطق وتمام العقل، كيف يعجز عن التعبير عن آلامه، فيصرخ باكيا، وتحار أمه في معرفة سبب وجعه، مع حرصها الشديد على إزالته وتلا ذلك: نعمة الأخلاق التي يتحلى بها الآدمي، فلا يقارف ما تأنفه الطبائع السوية من خوارم المروءة، ومنها، كما قرر أهل العلم في مبحث: خوارم المروءة: الأكل في الطرق والأسواق لغير أصحابها ممن تضطرهم أعمالهم وتجاراتهم إلى البقاء خارج البيوت أزمنة طويلة يقع معها المرء في مشقة وحرج، فتجلب المشقة التيسير، ويرفع الحرج ويزال، بتجويز الأكل خارج الدور، مع كونه مفسدة، إذ مفسدة الحرج الواقع من عدم الأكل طيلة تلك الأوقات الطويلات أعظم من مفسدة الاستعلان بالأكل في الطرقات، فتدفع المفسدة العظمى بارتكاب المفسدة الصغرى، ومما أثر من سيرة مالك، رحمه الله، عالم المدينة، نجم السنن، موطئ الموطأ، حشمته الشديدة في المأكل والمشرب، فقد كان، رحمه الله، مع كونه صاحب مأكل ومشرب وملبس حسن، شديد التوقي في ذلك، فلم يكن يأكل بحضرة أحد، حتى أهل بيته، والإنسان يجد من الانبساط وقلة التحرز مع أهله ما لا يجده مع غيره، ولكن حشمة مالك، رحمه الله، وقد بلغ الذروة فيها قد منعته ذلك، فلم يكن ينفرد بطعامه بخلا أو جشعا أو

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير