أو ابنَ سبيلٍ قالَ في ظِلِّ دَوْحَةٍ ** وراحَ وخلَّى ظِلَّها يَتَقَسَّمُ
قال الشارح:
اللهم قونا على ذلك.
أخا سَفَرٍ لا يستقرُّ قَرارُهُ ** إلى أنْ يَرى أوطانَهُ ويُسَلِّمُ
فيا عجبًا! كمْ مَصْرَعٍ وَعَظَتْ بِهِ ** بنِيها ولكنْ عن مَصارعِها عَمُوا
قال الشارح:
صحيح من العجب أن المصارع – مصارع الدنيا - التي وعظت به بنيها كثيرة، ولكن عن مصارعها عموا، ولنأخذ أمثلة من هذا، ما أكثر ما نرى من الأغنياء يعودون فقراء، بينما يتكفف الناس إليهم أيديهم، صاروا يتكففون الناس!، مثل هؤلاء الموت خير لهم من الحياة، لأنهم ذاقوا الذل بعد العز.
كم من إنسان قوي العضلات، في عنفوان شبابه، ونضرة وجهه، أصيب بحادث أهزله بعد السِّمَن، وأغبر وجهه بعد النضارة، وصار من رآه يرق له ويحزن عليه.
كم من إنسان بنى وأمّل، وذهب خياله إلى زمن بعيد، ولكنه لم يسكن ما بنى.
كم من إنسان غرس وحرث يؤمل أن يستمتع بثمرات ما غرس، وما زرع، ولكن يحال بينه وبينه.
وخذ من هذه الأمثلة الكثيرة؛
كم من أناس نحن علمناهم في عصرنا، وسمعنا عنهم فيما سبقنا، كانوا كثرة مجتمعين، أخ مع أخيه مع أبنائهم، مع بناتهم، مع أهليهم، مجتمعين، في بيت أو بيوت متقاربة، لكنهم على أكثر ما يكون من الأنس والفرح والسرور، فإذا بهم يتفرقون بموت أو مصائب أو فقر، أو عدو، أو غير ذلك، أليس هذا واقعا؟! بلى واقعا وكثيرا، إذا لماذا لا نتعظ؟!، يجب علينا أن نتعظ بما تعظ به الدنيا بنيها.
كيف نتعظ؟!
ليس الاتعاظ معناه أن نبكي إذا ذكرنا هذه الأحوال، الاتعاظ أن نتخذ هذه الأحوال عبرة، وأن هذه الدنيا ليست دار مقر، وليست دار نعيم مقيم، وأن الآخرة هي دار المقر، وهي دار النعيم المقيم، فنأخذ من هذه الدنيا ما نجعله سَلَما للآخرة، كأنما نقدم الثمن لسلعة منتظرة، وحينئذ تربح الدنيا والآخرة، ولا أحد ألذ وأنعم عيشا وأطيب قلبا، وأهدأ بالا، لا أحد مثل المؤمن العامل للصالحات، {من عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة}. أنا أقول لكم هذا مع أني مقصر!، لكن أرجو أن يكون في كلامي خير لي ولكم وبركة.
يجب أن نلاحظ الأمر بدقة، ونعرف ماذا صنعنا؟
أين الإيمان الذي يحل بالقلب حتى تتساوى عنده أقدار الله عز وجل؟!، الخير والشر من الله يطمئن إليه، وإن كان الشر لا ينسب إلى الله تعالى، لكنه من قضائه، أي من مقضياته، فتجد الإنسان مطمئنا، إن أصابته سراء شكر، ولم يحمله ذلك على الأشر والبطر، وإن أصابته ضراء صبر، ولم يحمله ذلك على الجزع والتسخط وكراهة قضاء الله – عز وجل – بل يعلم أن الله له الحكمة فيما قضى وقدر، فيطمئن له قلبه، ويبقى دائما مسرورا، والله لا أحد أنعم من الإنسان المؤمن بالقضاء والقدر على الوجه الصحيح المطلوب أبدا.
سقتْهمْ كؤوسَ الحُبِّ حَتى إذا نَشَوْا ** سقتْهم كؤوسَ السُّمِّ والقومُ نُوَّمُ
قال الشارح:
الله أكبر، أظن أن البيت واضح معناه، يعني أنها تغريهم وتغرهم، فإذا بها تخدعهم وتمكر بهم، ثم قال:
و أعجبُ ما في العَبْدِ رؤيةُ هذه الْ ** ـعَظائِمِ والمغرورُ فيها مُتَيَّمُ
وما ذاك إلا أنَّ خمرةَ حُبِّها ** لَتَسْلِبُ عقلَ المرءِ منه وتَصْلِمُقال الشارح:
تصلم يعني تقطع.
وأعجبُ مِن ذا أن أحبَابَها الأُلى ** تُهينُ ولِلأَعْدَا تُراعِي وتُكْرِمُ
قال الشارح:
هذا المشكل، أحيانا يكون المتيم بها المحب، من أقل الناس حظا فيها!، تجده لا ينام الليل من طلب الحياة الدنيا، دائما شاغل في فكره وعقله وقوله وفعله، لا ينام ولا يستريح، ومع ذلك هو أقل الناس حظا منها، وهذا شيء مشاهد ومجرب، هذا من العجب، كيف تجعل أكبر همك، ومبلغ علمك هذه الحياة الدنيا، التي أنت فيها من أشقى عباد الله؟!!.
وذلكَ بُرهانٌ على أنّ قدْرَها ** جناحُ بعوضٍ أو أدقُّ و أَلْأَمُ
وحَسْبُكَ ما قال الرسولُ مُمَثِّلا ** لها ولِدارِ الخُلدِ والحقُّ يُفهَمُ
كما يُدلِيَ الإنسانُ في اليمِّ أُصْبُعًا ** ويَنْزِعهُا عنه فما ذاكَ يَغْنَمُ
قال الشارح:
يعني مثل الحياة الدنيا في الآخرة، كرجل جعل أصبعه في اليم – وهو البحر – ثم نزعه فلينظربم يرجع، لم ينقص البحر، وهذا كقول الله – عز وجل – في الحديث القدسي: ((يا عبادي: لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم، قاموا في صعيد واحد، فسألوني فأعطيت كل إنسان مسألته، ما نقص ذلك مما عندي إلا كما ينقص المخيط إذا غمس في البحر)).
الله أكبر، هل ينقص؟ لا، لكن هذا من باب تأكيد الشيء بما يشبه النفي، ما نقص إلا .... تتوقع أنه سيأتي شيء بيِّن أنه ناقص .. ، قال: إلا كما ينقص المخيط إذا غمس في البحر.
والحمد لله رب العالمين.
المصدر:
http://www.mktaba.org/vb/showthread.php?t=6395
¥