تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

إسهاماتهم، وذلك على الرغم من أن البحث العلمي في العصور الوسطى كان قائمًا بشكل رئيس على إسهامات العرب والمسلمين العلمية.

من هنا أرى التدليل على أهمية كتاب جورج سارتُن، فلقد سد هذا الكتاب الثغرةَ الكبيرة في تاريخ العلوم والمعارف الانسانية، وعالج كل مصادر الحضارة القديمة والحديثة، وتوقف كثيرًا وبإنصاف على الفترة الإسلامية، فأوفى إسهامات العرب والمسلمين في تاريخ العلوم والمعارف الانسانية حقها بموضوعية مستحبة. وتتجلى نظرة سارتُن إلى تاريخ العلم في هذا السياق بنقض فكرة "المعجزة الإغريقية" التي نشأت في عصر التجديد الذي كان رواده يرون أن العلوم والمعارف الإنسانية ولدت ونشأت في اليونان، فيقول في هذا السياق في مقدمة كتابه: "من السخافة أن نؤكد على نشأة العلوم في اليونان في حين مهد لهذه "المعجزة الإغريقية" خلال عشرات الألوف من السنوات في مصر وبلاد ما بين النهرين [ ... ]. لقد كانت العلوم اليونانية حركة نهضة أكثر منها إبداعًا واختراعًا". وعليه فإن سارتُن وضع فكرة "المعجزة الإغريقية" في سياقها الطبيعي، حيث أن الإسهامات المصرية والبابلية والشرقية القديمة كانت تمهيدًا للعلوم الإغريقية فيما بعد، وأن الحديث عن علوم اليونان دون الإشارة إلى ما سبقها في بابل ومصر إنما هو تزوير للتاريخ: "لا يعتبر التأريخ للعلوم القديمة دون تزويد القارئ بمعلومات كافية عن العلوم الشرقية ناقصًا فحسب، بل مزورًا أيضًا". وهذا النهج نفسه اتبعه في التأريخ لدور العرب والمسلمين وإسهامهم في تطوير العلوم والمعارف في العصور الوسطى، إذ رد الاعتبار لهم أسوة بالحضارات الشرقية التي ذكرتها.

لقد أيقن سارتُن وغيره من مؤرخي العلوم والحضارات والمؤرخين بشكل عام، ولا يزالون يوقنون حتى اليوم، أن اللغة العربية ـ إلى جانب الإغريقية واللاتينية والعبرية ـ واحدة من أربع لغات تشكل مصادر الحضارة الحديثة الأربعة، وأن دراستها ودراسة العلوم والمعارف والآداب المدونة فيها أمر لا بد منه في جميع الأحوال، حيث أن هذا هو التقليد العلمي الذي لم يتوقف في الغرب منذ العصور الوسطى حتى اليوم!

من جهة أخرى، لا تتجلى مقولة "الترجمة علم جامع للعلوم" في مقام مثلما تتجلى في هذا المقام. ولا تشكل ترجمة كتاب ما تحديًا لمترجم مثلما تشكل ترجمة هذا الكتاب، ذلك أن الإقبال على ترجمة كتاب يؤرخ لتاريخ العلوم والمعارف البشرية بما فيه من أسماء وتواريخ وحقب وسلالات ومصطلحات علمية وفنية كثيرة لعمل يتضمن دقة جانبية كثيرة، كالنظر في رسم الأسماء الأعجمية، والبحث والتدقيق في رسم الكلمات، وما إلى ذلك من أعمال بحثية ضرورية تقتضيها طبيعة الكتاب. ومن هنا أرى أن ترجمة بعض هذا الكتاب أو كله لا يقبل عليها إلا مترجم موسوعي مخضرم، ودليلي في ذلك يتجلى مما يلي:

لقد كان سارتُن يجيد قرابة عشرين لغة اعتمد -في كتابة تأريخه للعلوم والمعارف- على مصادر مدونة بها، واستخدم في كتابه مصطلحات منها. وهذا يؤدي إلى "عقبة من العقبات الترجمية أثناء نقل هذا الكتاب إلى العربية"- كما يقول المترجم في مقدمته، ولا يمكن التغلب عليها إلا بالبحث المستمر في جميع المصادر المتاحة، وناهيك بذلك من عمل جبار، يتجاوز دور المترجم التقليدي إلى دور العالم الموسوعي المحقق الذي يسعى في ترجمته إلى تحقيق غايات علمية أخرى تصدر عن الترجمة، نحو:

(أ) الالتزام بالتبويب الأصلي للكتاب لتسهيل عودة الباحثين العرب إلى الأصل الإنكليزي للكتاب؛

(ب) القيمة التوثيقية، وتتجلى بثبت آلاف المصادر العلمية التي اعتمد عليها سارتُن في تأليف كتابه ووضعها -إلى جانب الكتاب- في متناول الباحثين العرب؛

(ج) ضبط الأسماء الأعجمية بالأحرف اللاتينية وفقًا للنظام الذي أرساه المؤلف، ونقحرتها إلى العربية نقحرة علمية للإمعان في الضبط؛ وهذه إستراتيجية لا بد منها في ترجمة الكتب العلمية. (لا يلتفت في هذا السياق إلى الرأي القائل إن ذكر الأسماء بالأبجدية اللاتينية يثقل على القارئ)؛

(د) تجنب التعليق الإضافي في الحواشي – الأمر الذي قد يثقل على القارئ، ويحول بينه وبين فهم الفكرة المحورية.

ولكن المتعة الكبيرة التي تتيحها ترجمة الدكتور أحمد الليثي لهذا الجزء المخصوص بإسهامات العرب والمسلمين من كتاب سارتُن، تتمثل في نجاحه الكبير في "نقل الوقع" (كما يعرفه نيدا) الموجود في الأصل الإنكليزي للكتاب، وتقديمه ـ هو ومصادره وحواشيه ونتائجه ـ بديباجة عربية فصيحة، تخال معها وكأنك تقرأ في عيون كتب التراث، وليس في كتاب مترجم .. وهذا ـ لعمري ـ فيه من التميز والإبداع والروعة.

كلمة أخيرة:

إذا كانت الحضارة البشرية عمارة من اثني عشر طابقًا، فإن أربعة منها -في تقديري- إن لم يكن أكثر، هي من بناء العرب والمسلمين. وهذا ما وثق له سارتُن في سفره الجليل (مقدمة في تاريخ العلم). وعليه فإن ترجمة الجزء المتعلق بإسهامات العرب والمسلمين من كتابه هذا لخطوة فيها الإكبار والإجلال، في جميع الأحوال، مع أنها لا تشفي الغليل كله؛ إذ لا بد من ترجمة سائر كتاب (مقدمة في تاريخ العلم) - وكذلك سائر كتب جورج سارتُن وأبحاثه ـ إلى العربية في أقرب الآجال، ليس بسبب الفوائد العلمية العظيمة في كتبه وأبحاثه فقط، بل وفاءً لذكرى عالم كبير أنصف الأمم التي أسهمت في تاريخ الحضارة الانسانية، وفي مقدمتهم العرب والمسلمين- إنصافًا بيّنًا ..

فهنيئًا لنا وللثقافة العربية بهذه الترجمة، وبهذا الإنجاز النيّر الخيّر الذي نذر الدكتور أحمد عبدالفتاح الليثي له وقته، ليفيد شداة العلم والأدب بما يقودهم إلى أجواء الثقافة الأصيلة، وهو إذ يسير على هذه الجادة التي سلكها الأجداد، من العلماء الأمجاد، فإنه يتبع سنتهم من حيث الوفاء للعلم، والعطاء لطلابه، والاقتداء بخلقهم في البحث عن الحكمة ضالة المؤمن.

يا أحمدَ الليثيّ فضلُك غامر

أسديتَ نفعًا في العلومِ وفي الهدى

جوزيت خيرًا من كريمٍ زادنا

علمًا، وبالتأريخ فازَ من اقتدى.

د. عبدالرحمن السليمان

كلية ليسيوس – جامعة لو?ين- بلجيكا

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير