تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

: (وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ)، واكتسبت من التشريف ما لما أضيفت إليه من كماله فشرف المضاف من شرف المضاف إليه، إذ له حكمه لفظا ومعنى، وأي نسبة أعظم من النسبة إلى الإله، عز وجل، على جهة الوصف، فأوصافه أعظم الأوصاف وأكملها على حد قوله تعالى: (صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ)، أو الخلق على حد قوله تعالى: (وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا)، فهو صلى الله عليه وعلى آله وسلم أعظم وأشرف مخلوقاته، ثم فصل الأمر بعد إجماله فقال: (هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ)، فهو الخالق إيجادا، الرازق إمدادا، فله كمال القدرة إذ خلق من عدم، وهو ما اصطلح النظار على تسميته بـ: "دليل الاختراع"، ورزق خلقه جميعا: مؤمنهم وكافرهم، برهم وفاجرهم، بل الناطق منهم والأعجمي، فلا رازق سواه، وهو ما اصطلح المتكلمون على تسميته بـ: "دليل العناية"، فالعناية الربانية بكل الموجودات حاصلة، وإذ ثبت له ذلك، فـ: "لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ"، فتوحيده بأفعال عباده فرعُ توحيده بأفعاله، فالأول لازم الثاني، فلا انفكاك بينهما إلا عند من تناقض، فأثبت الملزوم ونفى اللازم!.

وتأمل حال من غلا في المسيح والبتول عليهما السلام فخلع عليهما من أوصاف الألوهية ما جاز معه دعاؤهما بالمغفرة، فصارا قبلة الداعين سواء أكانوا من أهل الديانة بجهالة، أم من أهل الدنيا من طلاب الأولاد والأرزاق، وذلك حال من غلا من أهل القبلة في الأئمة والشيوخ، فأضرحتهم ملاذ المستغيثين من كروب الدنيا والآخرة على طريقة:

يا خائفين من التتر ******* لوذوا بقبر أبي عمر

عوذوا بقبر أبي عمر ******* ينجيكم من الضرر!

وفي أمر الآخرة: (مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى)، فهم وسائط وأسباب ما أنزل الله، عز وجل، بها من سلطان، فلا مستند من نقل أو عقل يصح معه اتخاذهم أسبابا: شرعية أو كونية، فذلك عين الابتداع، باختراع أسباب لم يشرعها الله، عز وجل، فيعتبر ما ألغاه من أهواء الرهبان والشيوخ، ويلغى ما شرعه من النبوات التي جاءت بأصدق الأخبار الإلهية وأعدل الشرائع الحكمية.

ومن لم يعرفه بكمال وصفه الإلهي، وذلك مما لا يكون إلا من طريق الوحي، إذ ليس للعقل فيه ولاية، بل هو تابع للنقل لا يملك الخروج عن سلطانه بسيف تأويل أو تحريف، من لم يعرفه بذلك: جوز اتصافه بأوصاف النقص، وذلك عين المحال الذاتي، فهو حال في ناسوت المسيح عليه السلام أو في فلان أو فلان من الأئمة أو الشيوخ، على طريقة أهل الحلول والاتحاد الخاص، أو هو حال في خلقه، وإن سفلت أعيانهم وأوصافهم على طريقة أهل الاتحاد والحلول العام، وقولهم أفحش قول قيل في الإلهيات، وقد التزموا لأجله، بل صرحوا بأفحش الأقوال مما يأنف من ذكره كل ذي عقل أو فطرة، وإن لم يكن على منهاج النبوة، فحاصل مقالتهم فساد في التصور بسلب الكمال من الخالق، بل ونعته بأوصاف المخلوق الناقص.

ومن لم يعرفه بكمال شرعه وحكمه، فهو أعدل شرع، وأحكم قول، من لم يعرفه به، ظن أن الشرائع الإلهية لا تفي بحاجة البشر في العبادات أو المعاملات أو السياسات أو الأخلاق، فجوز لفلان وفلان من المتشرعين المتلبسين بما لم يعطوا من أوصاف العلم والحكمة، أن يسن ما يرى فيه المصلحة، وإن كانت متوهمة ألغاها الشارع، عز وجل، على حد قوله تعالى: (إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا إِحْسَانًا وَتَوْفِيقًا)، واضطراب العقول أمر معلوم، فهي لا تدرك المصالح إلا على جهة الإجمال المفتقر إلى بيان النبوات، فلا تدرك إلا ما يعرض لها حسنه، بادي الرأي، ولو كان مما يخالف العقل والفطرة، ومجالس أوروبا النيابية التي تسن قوانين تبيح الفواحش المغلظة خير شاهد على ذلك الاضطراب العقلي!، فلا ميزان يدرك به الحسن والقبح تفصيلا إلا ما خرج من مشكاة النبوات، وإن أدرك العقل حسن الأشياء وقبحها إجمالا، فما يراه العقل اليوم حسنا، فيقره، ينقلب غدا فيصير قبيحا ينكره، على حد قوله تعالى: (وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا)، وتأمل الدساتير الوضعية التي يجري عليها قلم التعديل والنسخ باستمرار في مقابل الشريعة الإلهية الخاتمة التي حفظها الله، عز وجل، من التبديل والتحريف، فلا ينسخ منها شيء إذا لا نسخ بعد رفع النبوات من الأرض، ولا يجمع أتباعها على خلافها، فهم معصومون من الاجتماع على خلاف الحق، فلا تخلو الأرض من قائم لله بحجة، تأمل ذلك مما يقطع بأن العيب في الناظر إذ قصر نظره عن التصور الكامل للشرع الحاكم ففسد حكمه إذ ادعى بلسان الحال أو المقال حاجة الشرع الإلهي إلى شرع بشري ناسخ بحجة: "تجديد الخطاب الديني"، وهو لا يخرج في حقيقته عن كونه تخريبا وتحريفا لخطاب الشارع، عز وجل: المحكم، خطاب: (أحكمت *)، والناس أعداء ما جهلوا، فجهل البشر بكمال الشرائع الإلهية هو الذي حملهم على معارضتها بنحاتة الأفكار البشرية.

فالشاهد أن: أن الألوهية الصحيحة متضمنة لربوبية صحيحة، فصح الحكم فرعا عن صحة التصور، وأن الربوبية الصحيحة فرعٌ عن الكمال الإلهي: ذاتا وصفاتا وأفعالا، أصلٌ للتأله الصحيح، فلا يتخلف اللازم من كمال التأله له، جل وعلا، إلا بالقدح في الملزوم من كمال ربوبيته وذلك إنما يكون بوصفه، جل وعلا، بأوصاف النقص في ذاته المقدسة، أو نعته بها في أفعاله المحكمة.

فالتلازم بين أنواع التوحيد الثلاثة: تلازم وثيق.

والله أعلى وأعلم.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير