سلسلة: التَّفَكُّر والتَّدَبُّر متنوعة ومتجددة
ـ[أبوأيوب]ــــــــ[20 - 08 - 2009, 11:19 م]ـ
سلسلة التفكر والتدبر
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
فبمناسبة قدوم شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن، وحيث إن إنزال القرآن، إنما هو؛ لتدبره والتفكر في آياته، والعمل به.قال الله تعالى: " كتاب أنزلناه إليك مبارك ليدبروا آياته " وقال تعالى: " أفلا يتدبرون القرآن ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا "
وقال تعالى: " أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها ".
فإني أقدم بين أيديكم موضوعات أدعو بها نفسي وإخواني وأخواتي بشدة إلى التفكر والتدبر لكتاب ربنا عز وجل؛ فإن الإنسان لو جاءته رسالة من حبيب غالٍ عنده، لأخذ ينظر فيها وفي كل كلمة ويتأملها، ولم يمل من ذلك!
والقرآن العظيم قد جاءنا من أعظم محبوب ولا أحد أحب منه، فلنجعل في هذا الشهر الكريم وقتا لتدبر كتاب ربنا. وسأنقل في هذه السلسلة إن شاء الله من كلام ابن القيم رحمه الله في كتابه مفتاح دار السعادة ما يشفي ويعين على التدبر والتفكر بإذن الله.
فنبدأ وبالله التوفيق:
(1) مقدمة في أهمية التفكر والتدبر لا يستغني عنها من أراد ذلك
ثبت عن بعض السلف أنه قال: تفكر ساعة خير من عبادة ستين سنة.
وسأل رجل أم الدرداء بعد موت أبي الدرداء رضي الله عنه عن عبادته. فقالت:كان نهاره أجمعه في بادية التفكر.
وقال الحسن: تفكر ساعة خير من قيام ليلة. وقال الفضل: التفكر مرآة تريك حسناتك وسيئاتك.
وقيل لإبراهيم: إنك تطيل الفكرة. فقال: الفكرة مخ العقل. وكان سفيان كثيرا ما يتمثل:
إذا المرء كانت له فكرة ... ففي كل شيء له عبرة
وقال الحسن في قوله تعالى: " سأصرف عن آياتي الذين يتكبرون في الأرض بغير الحق ". قال: أمنعهم التفكر فيها. وقال بعض العارفين لو طالعتْ قلوبُ المتقين بفكرها إلى ما قُدِّر في حُجُبِ الغيب من خير الآخرة، لم يَصْفُ لهم في الدنيا عيش، ولم تَقَرَّ لهم فيها عين.
وقال الحسن: طول الوحدة أتم للفكرة، وطول الفكرة دليل على طريق الجنة.
وقال وهب: ما طالت فكرةُ أحد قط إلا عَلِم، وما علم امرؤ قَطُّ إلا عَمِل.
وقال عمر بن عبدالعزيز: الفكرة في نعم الله من أفضل العبادة.
وقال عبد الله بن المبارك لبعض أصحابه وقد رآه مفكرا: أين بلغت؟ قال: الصراط.
وقال بِشْر الحافي: لو فكر الناس في عظمة الله ما عصوه.
وقال ابن عباس رضي الله عنهما: ركعتان مقتصدتان في تفكر خير من قيام ليلة بلا قلب.
وقال أبو سليمان: الفكر في الدنيا حجاب عن الآخرة، وعقوبة لأهل الوَلاية. والفكرة في الآخرة تورث الحكمة وتجلي القلوب.
وقال ابن عباس رضي الله عنهما: التفكر في الخير يدعو إلى العمل به.
وقال الحسن: إن أهل العلم، لم يزالوا يعودون بالذِّكر على الفِكْر، والفكر على الذكر، ويناطقون القلوب حتى نطقت بالحكمة.
ومن كلام الشافعي: استعينوا على الكلام بالصمت. وعلى الاستنباط بالفكرة.
وهذا لأن الفكرة عمل القلب، والعبادة عمل الجوارح، والقلب أشرف من الجوارح. فكان عمله أشرف من عمل الجوارح. وأيضا: فالتفكر يوقع صاحبه من الإيمان على مالا يوقعه عليه العمل المجرد، فإن التفكر يوجب له من انكشاف حقائق الأمور، وظهورها له، وتميز مراتبها في الخير والشر، ومعرفة مفضولها من فاضلها، وأقبحها من قبيحها، ومعرفة أسبابها الموصلة إليها، وما يقاوم تلك الأسباب، ويدفع موجبها، والتمييز بين ما ينبغي السعي في تحصيله، وبين ما ينبغي السعي في دفع أسبابه، والفرق بين الوهم والخيال المانع لأكثر النفوس من انتهاز الفرص بعد إمكانها، وبين السبب المانع حقيقة فيُشْتَغَل به دون الأول.
فما قَطَعَ العبدَ عن كماله وفلاحه وسعادته العاجلة والآجلة قاطعٌ أعظم من الوهم الغالب على النفس والخيال، الذي هو مركبها. بل بحرها الذي لا تنفك سابحة فيه.
وإنما يقطع هذا العارض بفكرة صحيحة، وعزم صادق يميز به بين الوهم والحقيقة.
وكذلك إذا فكر في عواقب الأمور، وتجاوز فكرُه مباديَها وَضَعَها مواضِعَها، وعلم مراتبها.
فإذا ورد عليه وارد الذنب والشهوة، فتجاوز فكرُه لَذَّتَه، وفَرَحَ النفسِ به إلى سوءِ عاقبتِه، وما يترتب عليه من الألم، والحزن الذي لا يُقاوِمُ تلك اللذةَ، والفرحةَ، ومن فكَّر في ذلك، فإنه لا يكاد يُقْدِم عليه.
وكذلك إذا ورد على قلبه وارِدُ الرَّاحة والدعة والكسل والتقاعد عن مشقة الطاعات وتعبها، حتى عَبَرَ بفكرِه إلى ما يترتب عليها من اللذات، والخيرات، والأفراح التي تغمر تلك الآلام، التي في مباديها بالنسبة إلى كمال عواقبها.
وكلما غاص فكره في ذلك، اشتد طلبه لها، وسهل عليه معاناتها، واستقبلها بنشاط وقوة وعزيمة.
وكذلك إذا فكَّر في منتهى ما يستعبده من المال والجاه والصور ونظر إلى غاية ذلك بعين فكره، استحى من عقله ونفسه، أن يكون عبدا لذلك، كما قيل:
لو فكر العاشقُ في منتهى ... حُسْنِ الذي يسبيهِ لم يسبهِ
وكذلك إذا فكر في آخر الأطعمة المفتخرة التي تفانت عليها نفوس أشباه الأنعام، وما يصير أمرها إليه عند خروجها، ارتفعت همته عن صرفها إلى الاعتناء بها، وجعلها معبودَ قلبِه، الذي إليه يتوجَّهُ، وله يرضى ويغضب، ويسعى ويكدح، ويوالي ويعادي. كما جاء في المسند عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه قال: " إن الله جعل طعام ابن آدم مثل الدنيا، وإن قَزَّحَه ومَلَّحَه، فإنه يعلم إلى ما يصير، أو كما قال صلى الله عليه وسلم.
فإذا وقع فكره على عاقبة ذلك وآخر أمره، وكانت نفسُه حُرَّةً أَبِيَّةً ربأ بها (نزَّهها) أن يجعلها عبدا، لما آخره أنتنُ شيءٍ، وأخبثه، وأفحشه.
الحمد لله رب العالمين وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.
¥