تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

[من طريق الهجرتين]

ـ[مهاجر]ــــــــ[24 - 08 - 2009, 07:51 ص]ـ

لمحات من ذلك السفر النفيس على حد تذكير النفس وتذكير الإخوان في تلك الأيام الطيبات:

وبداية مع قول ابن القيم، رحمه الله، في خطبة كتابه:

"فله، (أي: العبد)، في كل وقت هجرتان:

هجرة إلى الله بالطلب والمحبة والعبودية والتوكل والإِنابة والتسليم والتفويض والخوف والرجاءِ والإِقبال عليه وصدق اللجإ والافتقار في كل نفس إِليه.

وهجرة إِلى رسوله فى حركاته وسكناته الظاهرة والباطنة، بحيث تكون موافقة لشرعه الذى هو تفصيل محابّ الله ومرضاته، ولا يقبل الله من أَحد ديناً سواه، وكل عمل سواه فعيش النفس وحظها لا زاد المعاد، وقال شيخ الطريقة وإِمام الطائفة الجنيد بن محمد قدّس الله روحه: الطرق كلها مسدودة إلا طريق من اقتفى آثار النبى صلى الله عليه وسلم، فإِن الله عَزَّ وجَلَّ يقول: "وَعِزَّتِى وَجَلالِى لَوْ أَتُونِى مِنْ كُلِّ طَرِيقٍ، وَاسْتَفْتَحُوا مِنْ كُلِّ بَابٍ، لَمَا فَتَحتُ لَهُمْ حَتَّى يَدخُلُوا خَلْفَكَ". وقال بعض العارفين: كل عمل بلا متابعة فهو عيش النفس.

ولما كانت السعادة دائرة - نفياً وإِثباتا ً- مع ما جاءَ به كان جديراً بمن نصح نفسه أَن يجعل لحظات عمره وقفاً على معرفته وإِرادته مقصورة على محابه، وهذا أَعلى همة شمر إليها السابقون وتنافس فيها المتنافسون". اهـ

"طريق الهجرتين"، ص19.

فقد تعرض ابن القيم، رحمه الله، في خطبة كتابه إلى مسألة صيرها المحققون من أهل العلم: قطب رحى هذه الملة، وخطة النجاة لكل سالك طريق الديانة، ألا وهي مسألة: النبوات.

فالنجاة لا تكون إلا بهجرتين أشار إليهما ابن القيم، رحمه الله، في عنوان كتابه: "طريق الهجرتين":

الهجرة إلى الله عز وجل: باستحضار معاني الفقر الذاتي إليه، كما سيذكر في أول فصول كتابه، فالعبد مفتقر إلى مدده: روحا وبدنا، فالروح مفتقرة إلى عنايته بما ينزل من السماء من طيب أغذية القلوب من الأخبار المصدقات والشرائع المحكمات، والبدن مفتقر إلى عنايته بما يخرج من الأرض من أغذية البدن من المأكول الطيب المريء، والمشروب العذب الهنيء، فهو الرب الذي يرب الأرواح والأبدان بما يصلحها، الرب الذي يملك الأعيان بمُلكِه، ويقدر الأفعال بمِلكه، فلا شريك له في ربوبيته: لا في أعيان المخلوقات ولا في أنواع المقدورات، فكل ذرات الكون من خلقه، فهي لأمره خاضعة، لم يحتج إلى شريك، ولم يفتقر إلى معاون أو ظهير فله الحمد في الأولى والآخرة: حمد من كملت أوصافه أزلا، فاستحق كل ثناء، وإن لم يصل إلى غيره من آثار محامده شيء، فكيف ونعمه تترى، فالكل في قيد إنعامه أسرى؟!، قد أنعم بالإيجاد بكلماته الكونية وأعد القلوب لتلقي كلماته الشرعية، فهي على التوحيد قد فطرت، وللسمع والطاعة قد خلقت، وتلك مجملات قد فصلتها أخبار النبوات وشرائعها المحكمات فتلك الهجرة الثانية:

الهجرة إلى الرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم: باقتفاء آثاره الشرعية لا بشد الرحال إلى بدنه الشريف، غلوا فيه بلا مستند، ووقوعا فيما نهى وعنه وزجر على حد حديث عمر، رضي الله عنه، مرفوعا: (لا تطروني)، فالنبوة هي الطريق الممهد إلى مراد الرب، جل وعلا، فبها تشرق أرض القلب بنور الوحي المصدق، فمن هجرها فله من الحيرة بقدر هجرانه، ومن أعرض عنها فله من ضنك العيش بقدر إعراضه، فكل من أحس في نفسه استغناء عنها، فهو بضدها قد تشبع، فاستعاض عن الهداية الربانية بالضلالة الشيطانية، ضلالة: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ)، فأتي من نقص معلومه الشرعي، ففسد تصوره العلمي، لفساد استمداده، فأنتجت تلك المقدمات الباطلة: أحكاما وأعمالا فاسدة، فهو في بطلان من القول وفساد من العمل كبير، وحال الأمم خير شاهد على ذلك، فما من أمة أعرضت عن الوحي، وحقرت من شأن الرسل والرسالات إلا ابتليت بصنوف الضيق في المعايش والأرزاق، على حد قوله تعالى: (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آَمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ)، وإلا نال أفرادها من صنوف الهموم ما تنوء بحمله الجبال وإن كانت الصور الظاهرة ضاحكة منعمة، فالحقائق الباطنة كئيبة معذبة، وتلك سنة كونية جارية، فإن من تولى عن السنن الشرعية فله من العقوبات الكونية بقدر توليه، وما ذلك لربه، عز وجل، بضائر، بل هو التالف الخاسر، فالله، عز وجل، هو القائل: (إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ)، فهو الغني عن كدح عباده في أمر المعاش، فـ: (مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ (57) إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ)، وهو الغني عن كدحهم في أمر المعاد: (إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا).

والله أعلى وأعلم.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير