[هكذا اقرأ كي تفهم القرآن. .]
ـ[صاحب المعالي]ــــــــ[17 - 08 - 2009, 12:53 ص]ـ
كنت أقرض الشعر الشعبي وأجيد فيه، بل كنت أحب المحاورة التي هي ميدان الشعراء الأقوياء فعلا، والتي تنم على الذكاء وقوة الشاعرية وحضور البديهة، ولكن حين اكتشفت لنفسي بعد ذلك أن الشعر الشعبي مع طرافته وظرفه أكبر خطر على اللغة العربية الفصيحة، وعلى القرآن الكريم بالذات، هجرته غير آسف عليه، وراثٍ للمستمرين فيه.
وإذا أردت أن تعرف كيف اكتشفت ذلك لنفسي وتريد أن أبرهن عليه فخذ قرآنا وضعه بين يدي مهتم بالشعر الشعبي ومتعمق فيه، بل وشاعر مجوّد فيه وانظر ما ذا يقول لك!
فعلت ذلك مع صديق كريم فقال: أنا لا أفهم اللغة العربية، وهي صعبة معقدة. قلت له: فكيف تقرأ القرآن إذن!
قال: كيف كيف أقرأه؟! قلت: هل تقرأه للعبادة فقط، أي للأجر والثواب والقربة إلى الله فقط، أم لتتذوق جمال تعبيره وأسلوبه في الخطاب! قال: هذه هي المرة الأولى التي أسأل فيها هذا السؤال، وعلى أية حال فأنا لا أفهم اللغة العربية وأشعر بأنها صعبة عسرة تكلف جهدا ومشقة لأجل فهمها، ولست أدري ماذا تريد من سؤالك عن قراءتي للقرآن!
ومثل صديقي هذا كثير، وذلك لأنه يقرأ العامية ويتأثر بها، ويعرف جماليات تعبيرها، أما القرآن فيحس بأن لغته بعيدة كل البعد عنه وصعبة شاقة عليه، مع أن الناس اعتادوا –وعلى رؤوسهم شعراء الشعر العامي ومتذوقوه- أن يتحدثوا في المجالس عن بلاغة وإعجاز وبيان القرآن من جهة التعبد والدين والكلام المقرر سلفا، وليس من جهة الإقناع ولا من جهة البلاغة والبيان، يجب أن نقر هذه الملاحظة قبل أن ننتقل إلى ما بعدها، وأريد أن تلاحظ أني استخدمت كلمتي "الإحساس –والشعور" حكاية لكلام صديقي الذي يحس ويشعر بأن اللغة العربية صعبة عسرة.
إن إدراك جمال اللغة العربية ومن ثم إدراك أسلوب القرآن ولغة تعبيره لا بد أن يأتي من تصور لأساليب التعبير لهذه اللغة، ولست أقصد تصور العلماء المبني على التحليل والدراسة والتقعيد، وإنما التصور المبني على القراءة الكثيرة للغة في شعرها ونثرها والتي تجعلك تتعايش معها وتحاول اكتشاف وجه تأثيرها في سامعها وفي أي مقام قيل أو كتب، بعيدا عن أي نظرة أخرى كالنظرة التعبدية أو الفوقية أو البيان والإعجاز المقرر بالعادة والتقليد.
إن صاحبي حين يقارن اللغة العربية الفصيحة بالعامية يستهون الثانية وينتقص منها، ويتحدث عنها حديث الناقم المزدري، وعن العربية حديث المجل المكبر، ويعظمها ويهيب بها، وهو حديث لا أثر له في نفس قائله قط، بله أنا وغيري من سامعيه، لأن صاحبنا يتحدث بهذا الحديث وهو شاعر عامي، بل ومبرّز فيه متقن له، وحاز على جوائز كثيرة به، بل إنه شاعر ألغاز، وهذه تحتاج إلى سعة اطلاع ومعرفة بأساليبه ومفرداته والعمق فيه، وتحتاج إلى ذكاء ودقة ملاحظة، وهو كذلك شاعر محاورة قوي، وهذه الأخرى تحتاج إلى منطق قوي وعارضة شديدة وبرهان ساطع.
وهذه المقارنة خاطئة في تصوري، لأن أساليب التعبير في اللهجات واللغات لا تتفاضل فيما بينها من ناحية التراكيب أو الكلمات أو الأسلوب عموما، فكل لغة أو لهجة لها خصائصها، وهي قادرة بها على التعبير عن حاجاتها، ومن الخطأ الفاحش أن نهوّن من شأن موهبة شعراء العامية ونقلل من قيمة شعرهم لأنهم لا يكتبونه بالفصحى، وذلك أن العامية لها خصائصها التعبيرية ومميزاتها التي تختلف بها عن أساليب التعبير الفصيحة، والشعراء فيها يتفاوتون ويتفاضلون بحسب اطلاعهم وثقافتهم، وهي كذلك كفيلة بالتعبير عن حاجاتها بدقة ووضوح. صحيح أن كل لغة تؤثر في نفس المتكلم بها وفي ثقافته وطريقة تفكيره وكذلك اهتمامه بناء على مضامينها، ولكن ليس لهذا شأن في تركيب اللغة وأساليب تعبيرها. أرجو أن أكون دقيقا واضحا في هذا، وأنا لست بصدد الحديث عن اللهجة واللغة بتصانيفها عند اللغويين كذلك، لا، أنا أريد أن أقول أن كل نظام تعبيري له مكوناته وخصائصه التي تميزه من غيره من الأنظمة التعبيرية الأخرى، أرجو أن أكون واضحا كل الوضوح في تعبيري عما أريد أن أقوله.
وإذا كانت اللغة العربية تتميز بأنها لغة القرآن الكريم، فليس هذا لأن له خصائص ومميزات أفضل من غيرها من اللغات التي كانت موجودة حين نزل القرآن، خاصة حين نعلم أن العرب كانوا أمة لا خطر ولا سيادة لهم على الأرض في ذلك الوقت، بل كانوا مغلوبين من قيصر وكسرى.
وبهذا ندرك عظم النعمة التي حباها الله للأمة العربية حيث قرن لغتها بدينه الباقي وبرسالته الأخيرة حتى يرث الأرض ومن عليها، فاللغة العربية باقية ما بقي هذا الدين، ومنتشرة ما انتشر هذا الدين، وبهذا العطاء الرباني تفضل اللغات الأخرى فقط، وهو فضل جاءها من خارج خصائصها ومكوناتها الأساسية.
ويأتي السؤال الآن، كيف ندرك جماليات التعبير القرآني؟. وكيف نقتنع بفصاحته وبلاغته وعجز العرب عن الإتيان بمثله، وكيف نفهم السبب الذي جعل العرب يقرّون بأنه معجز وبأنه يعلو ولا يعلى عليه.
لكي نجيب على هذا السؤال يلزمنا أن نقرأ كلام العرب في شعرها ونثرها قبل كل شيء، ونحاول أن نعرف ما ذا يقول صاحبه بالضبط، وكيف عبّر عما يريد، أي ما هو أسلوبه في التعبير، لنكن دقيقين وواضحين في قرائتنا ومتجنبين الوقوف عند قواعد النحو واللغة، ولنتصور أساليب الخطاب العربية الفصيحة ولنحاول التماس أسباب القول وأثره في سامعيه، ثم بعد ذلك سنجد أننا نقرأ القرآن قراءة ليست كقرائتنا التي تقرأ تعبدا فقط، ولكن سنقرأه من ناحية أدبية جمالية نستطيع من خلالها أن نقتنع بقوة بيان القرآن وندرك سرّ إعجازه اللغوي، ونستطيع بعد هذا كله أن نوقن أن العامية أشد خطرا على اللغة العربية من أي شيء آخر.
المعالي
www.alm3ali.wordpress.com
¥