والشمس والقمر سرجان يزهران فيه، والنجوم مصابيح له وزينة وأدلة للمنتقل في طرق هذه الدار!
والجواهر والمعادن مخزونة فيه كالذخائر والحواصل المعدة المهيأة، كل شيء منها لشأنه الذي يصلح له!
وضروب النبات مهيأ لمآربه وصنوف الحيوان مصروفة لمصالحه، فمنها الركوب، ومنها الحلوب، ومنها الغذاء، ومنها اللباس والأمتعة والآلات!
ومنها الحرس الذي وكل بحرس الإنسان يحرسه وهو نائم وقاعد مما هو مستعد لإهلاكه وأذاه!
فلولا ما سلط عليه من ضده لم يَقرّ للإنسان قرار بينهم!
وجعل الإنسان كالملك المخول في ذلك المحكم فيه المتصرف بفعله وأمره!
ففي هذا أعظم دلالة وأوضحها على أن العالم مخلوق لخالق حكيم قدير عليم قدره أحسن تقدير ونظمه أحسن نظام!
وأن الخالق له يستحيل أن يكون اثنين بل الإله واحد. لا إله إلا هو تعالى عما يقول الظالمون والجاحدون علوا كبيرا.
وأنه لو كان في السموات والأرض إله غير الله لفسد أمرهما واختل نظامهما وتعطلت مصالحهما!
وإذا كان البدن يستحيل أن يكون المدبر له روحان متكافئان متساويان، ولو كان كذلك لفسد وهلك مع إمكان أن يكون تحت قهر ثالث هذا من المحال في أوائل العقول، وبداية الفطر، فلو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا فسبحان الله رب العرش عما يصفون!
ما اتخذ الله من ولد وما كان معه من إله إذا لذهب كل إله بما خلق ولعلا بعضهم على بعض سبحان الله عما يصفون عالم الغيب والشهادة فتعالى عما يشركون!
فهذان برهانان يعجز الأولون والآخرون أن يقدحوا فيهما بقدح صحيح.
أو يأتوا بأحسن منهما، ولا يعترض عليهما إلا من لم يفهم المراد منهما.
وتأمل خلق السماء وارجع البصر فيها كرة بعد كرة!
كيف تراها من أعظم الآيات في علوها وارتفاعها وسعتها وقرارها بحيث لا تصعد علوا كالنار، ولا تهبط نازلة كالأجسام الثقيلة، ولا عمد تحتها وعلاقة فوقها!
بل هي ممسوكة بقدرة الله الذي يمسك السموات والأرض أن تزولا، ثم تأمل استواءها واعتدالها، فلا صدع فيها، ولا فطر، ولا شق، ولا أمت ولا عوج!
ثم تأمل ما وضعت عليه من هذا اللون الذي هو أحسن الألوان وأشدها موافقة للبصر وتقوية له!
حتى أن من أصابه شيء أضر ببصره يؤمر بإدمان النظر إلى الخضرة، وما قرب منها إلى السواد.
وقال الأطباء: إنّ مَنْ كَلّ بصرُه فإنه من دوائه أن يديم الاطلاع إلى إجانة خضراء مملوءة ماء!
فتأمل كيف جعل أديم السماء بهذا اللون؛ ليمسك الأبصار المتقلبة فيه، ولا ينكأ فيها بطول مباشرتها له. هذا بعض فوائد هذا اللون والحكمة فيه أضعاف ذلك.
ثم تأمل حال الشمس والقمر في طلوعهما وغروبهما لإقامة دولتي الليل والنهار!
ولولا طلوعهما لبطل أمر العالم، وكيف كان الناس يسعون في معايشهم، ويتصرفون في أمورهم، والدنيا مظلمة عليهم!
وكيف كانوا يتهنون بالعيش مع فقد النور!
ثم تأمل الحكمة في غروبهما. فإنه لولا غروبهما لم يكن للناس هدوء ولا قرار! مع فرط الحاجة إلى السبات، وجموم الحواس، وانبعاث القوى الباطنة، وظهور سلطانها في النوم المعين على هضم الطعام، وتنفيذ الغذاء إلى الأعضاء!
ثم لولا الغروب لكانت الأرض تحمى بدوام شروق الشمس، واتصال طلوعها حتى يحترق كل ما عليها من حيوان ونبات!
فصارت تطلع وقتا بمنزلة السراج يرفع لأهل البيت؛ ليقضوا حوائجهم، ثم تغيب عنهم مثل ذلك؛ ليقروا ويهدؤوا.
وصار ضياء النهار مع ظلام الليل وحر هذا مع برد هذا مع تضادهما متعاونين متظاهرين. بهما تمام مصالح العالم، وقد أشار الله تعالى إلى هذا المعنى ونبه عباده عليه بقوله عز وجل: " قل أرأيتم إن جعل الله عليكم الليل سرمدا إلى يوم القيامة من إله غير الله يأتيكم بضياء أفلا تسمعون قل أرأيتم إن جعل الله عليكم النهار سرمدا إلى يوم القيامة من إله غير الله يأتيكم بليل تسكنون فيه أفلا تبصرون "!
خص سبحانه النهار بذكر البصر؛ لأنه محله وفيه سلطان البصر، وتصرفه! وخص الليل بذكر السمع؛ لأن سلطان السمع يكون بالليل، وتسمع فيه الحيوانات مالا تسمع في النهار؛ لأنه وقت هدوء الأصوات، وخمود الحركات!
وقوة سلطان السمع وضعف سلطان البصر، والنهار بالعكس فيه قوة سلطان البصر وضعف سلطان السمع.
فقوله: " أفلا تسمعون " راجع إلى قوله: " قل أرأيتم إن جعل الله عليكم الليل سرمدا إلى يوم القيامة من إله غير الله يأتيكم بضياء ".
وقوله: " أفلا تبصرون " راجع إلى قوله: " قل أرأيتم إن جعل الله عليكم النهار سرمدا إلى يوم القيامة ".
وقال الله تعالى: " تبارك الذي جعل في السماء بروجا وجعل فيها سراجا وقمرا منيرا وهو الذي جعل الليل والنهار خلفة لمن أراد أن يذكر أو أراد شكورا ".
فذكر تعالى خلق الليل والنهار، وأنهما خِلْفَة أي: يخلف أحدهما الآخر. لا يجتمع معه، ولو اجتمع معه لفاتت المصلحة بتعاقبهما واختلافهما!
وهذا هو المراد باختلاف الليل والنهار. كون كل واحد منهما يخلف الآخر لا يجامعه، ولا يحاذيه. بل يغشى أحدهما صاحبه، فيطلبه حثيثا حتى يزيله عن سلطانه!
ثم يجيء الآخر عقيبه، فيطلبه حثيثا حتى يهزمه ويزيله عن سلطانه، فهما دائما يتطالبان، ولا يدرك أحدهما صاحبه!
سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم!
لنا عودة مع ابن القيم والتفكر في مخلوقات الله إن شاء الله.