انظر مدى القوة، ومدى النصر، ومدى البأس الذي حققه رسول اللهبهذه المعاهدة، ومدى العلو الذي كان فيه على اليهود، ورغم ذلك يأتي من يشبه المعاهدات الحديثة بهذه المعاهدة بين رسول الله واليهود.
دروس من المعاهدة
ماذا نتعلم من رسول الله في هذه المعاهدة؟
أولاً: نتعلم أن الإسلام دين ينتظم كلَّ أمور الحياة؛ فهذا هو رسول الله الذي علَّم المسلمين الصلاة والصيام والقيام والقرآن وبناء المساجد؛ يقف الآن بصلابة وبرجولة وبقوة وبحكمة سياسية بارعة يعاهد اليهود معاهدة كانت يد الله فيها هي العليا.
ثانيًا: ماذا حصَّل المسلمون من هذه المعاهدة؟ حصلوا اتقاء شر اليهود، والتعاهد على البر وليس على الإثم، والاعتراف - وهذه كلمة في غاية الأهمية - الاعتراف من اليهود بدولة المسلمين الناشئة؛ فهذه دولة قوية لها احترام ولها عزة، ولها رأي تجلس مع اليهود لتعقد معاهدةً، للمسلمين فيها اليد العليا.
كذلك إبعاد قوة اليهود عن معاونة قريش، وكان هذا نجاحًا كبيرًا؛ فرسول الله فصل بين الحزبين: حزب قريش وحزب اليهود، وأيّ مخالفة سيدفع اليهود بعد ذلك ثمنها، ثم الحكمُ والمَرَدُّ للرسول.
كما قَبِل اليهود - ولهم من العمر مئات السنين في داخل يثرب - بزعامة الرسولعلى المدينة المنورة. أيُّ فضلٍ، وأيُّ خيرٍ، وأي عظمة، وأي تمكين في هذه المعاهدة التي جرت بين الرسول واليهود.
ثالثًا: أن شرط المعاهدات مع غير المسلمين ألا نخالف شرع الله. إن البون شاسع بين هذه المعاهدة وبين المعاهدات الحديثة، فكيف يشبهونها بمعاهدة الرسول مع اليهود؟!
في معاهدة رسول الله مع اليهود لم يخالف شرع الله، ولم يقدِّم تنازلاً واحدًا مُخِلاًّ بالدين، وقد بيَّنا أن أهم شرط في العهود مع أهل الكتاب ألا يُنقض أمر من أمور الدين، وعندما أقر عدُوُّي على امتلاكه لأرض من أراضي المسلمين، فهذا إخلال واضح بأمر من أمور الدين، كما حدث بعد ذلك في المعاهدات الحديثة.
كما أنه لا يُقبل في معاهدة إسلامية أن يُعقد الصلح في وقتٍ تَعَيَّن الجهاد، ومن الأسباب التي تجعل الجهاد فرض عينٍ - ولا شك في ذلك - نزول العدو في الأرض الإسلامية، كما فعل اليهود حين نزلوا أرض فلسطين.
من مخالفة الشرع أيضًا الإقرار بالظلم. إن معاهدة الرسول تنص على أن النصر للمظلوم، ومن ثَمَّ لا يجوز عقد معاهدة يكون من جرَّائها أن يُزجَّ في السجون بمئات أو آلاف من المجاهدين، أو يكون من جرائها إقصاء عدد هائل من المجاهدين عن الأرض الإسلامية، أو يكون من جرائها مصادرة الديار والأموال والأراضي، وما إلى ذلك.
في معاهدة الرسول: "وإنَّ الجار كالنفس غير مضارٍ ولا آثم" [1] ( http://majdah.maktoob.com/vb/#_ftn1). ولكن اليهود الآن ظلموا كل الجيران: ظلموا الجيران من الفلسطينيين، والجيران من السوريين، والجيران من اللبنانيين، والجيران من المصريين، وهذه كلها مخالفات شرعية لا تجوز في المعاهدات مع اليهود، أو مع غيرهم من غير المسلمين.
في زمان الرسول أو في عهده، كان الخروج من المدينة لا يتمُّ إلا بإذنه، لكن الآن لا يخرج أحد من الفلسطينيين من فلسطين إلا بإذن من اليهود.
أخذ الرسول العهد على اليهود ألا يجيروا قريشًا، القوة الأولى في الجزيرة في ذلك العقد. لكن هل أَمِنَ المسلمون شر أعدائهم بهذه المعاهدات الحديثة؟ هل اشترط المسلمون على اليهود ألاَّ يعاونوا عدوًّا للمسلمين يريد أن يضرب إحدى البلاد الإسلامية؟ هل اشترطوا عليهم ألاَّ يعاونوا أمريكا مثلاً في ضرب العراق أو سوريا أو السودان أو إيران، وغيرها من بلاد العالم الإسلامي؟ كل ذلك لم يحدث.
والأهم من ذلك أنه عند الاختلاف من يحكم بيننا؟ في معاهدة الرسول كان الحاكم هو الله عز وجلَّ ورسوله، وهذا مصرَّح به في المعاهدة ووقَّع اليهود على ذلك، أمَّا الآن فالمرد للأمم المتحدة، أو قُلْ لأمريكا.
من الذي أعطى فلسطين لليهود؟ إنها الأمم المتحدة التي أصدرت قرار التقسيم، وأعطت جزءًا كبيرًا من فلسطين لليهود، وبعد ذلك سلَّمتها كلها لهم. في الواقع إن المعاهدات في العصر الحديث مختلفة تمام الاختلاف عن المعاهدة التي عقدها الرسول، ولا وجه للمقارنة.
د. راغب السرجاني
*****
ونقلا عن موقع نصرة النبي صلى الله عليه وسلم
**
¥