تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

الأقوى والأَوْلى، وهو ما ذهب إليه الطبريُّ والزجّاج وأبو حيّان الأندلسيّ، و ما آخذ به أيضا، هو أن هذا الضمير عائد إلى الشمس المذكورة، لا إلى معهود ذهني مؤنث غير مذكور جاء له أكثر من تقدير منها: الظلمة، والسماء، والآفاق، والأرض، والبسيطة، والمعمورة، والحيوانات، والدنيا. وهذه كلها من مثل ما قال به الفرّاء ومال إليه المرحوم الإمام سيد قطب.

الخلاصة النحوية: النهار مجلٍّ (الفاعل)، والشمس مجلاة (المفعول به).

المعنى المستنتج: اكتساب الشمس تجلية من النهار – ووفق معنى التجلية السالف يكون النهار معطيا للشمس ضوءاً تتجلى به ينعكس أمام قرصها مظهرا فيه ومن حوله المباشر جلاءً، أيِ ابيضاضا مبصرا.

فلماذا حصل هذا الاختلاف؟

يبدو لي أن الذين قالوا بعودة الضمير - الهاء في جلاها- على معهود ذهني مؤنث غير مذكور قد فعلوا ذلك انطلاقا من المعرفة السائدة عن أنّ الشمس هي مصدر النهار، أي هي المعطية لهذا الضياء، مما قد عنى لهم أن عودة الضمير إلى الشمس نفسِها سيكون مخالفة من القرآن لتلك المعرفة المسلم بها، أي إنهم قد حاولوا أن يبعدوا الآية عن المعنى الذي يجعل النهار يعطي للشمس ضوءاً لإدراكهم أنَّ ذلك مخالف لحقائق علمية مسلم بها.

وأما الذين قالوا بعودة الهاء في "جلاها" إلى الشمس بسبب تقدم ذكرها؛ ولأنها موضوع الحديث أصلا فقد انقسموا إلى فريقين:

فريق أعطوْا للفعل: "جلّى" معاني تسمح بالتأويل: أبان، وأظهر، ووضّح، وأبدى، وكشف، وبيّن. ويبدو لي أن معظم هؤلاء لم يسألوا أنفسهم عن الكيفية التي يجلي بها النهارُ الشمس، أي إنهم وفق معاني التجلية التي أوردوها لم يجلّوا ما ذهبوا إليه في شروح تعليلية. وكان الزَّجّاج من القليل الذين حاولوا التعليل مبقياً على الأخذ بأن النهار هو من نور الشمس. وهذا ما ينقله عنه الفخرُ الرازي في التفسير الكبير ومفاتح الغيب: "الضمير في "جلاها" عائد إلى الشمس، وذلك لأنَّ النهار عبارة عن نور الشمس. فكلما كان النهار أجلى ظهورا كانت الشمس أجلى ظهورا؛ لأن قوة الأثر وكمالَه تدل على قوة المؤثر، فكان النهار يُبرز الشمس ويظهرها". وكأني بالزجاح يريد أن يقول إن مقدار تجلّي الشمس يظهر في مقدار تجلّي النهار، أي إن تجلّي النهار مؤشر يقيس تجلي الشمس، أوْ هو صورة عنه، أي إن الزجاج قد بقي يعتبر أن نور الشمس هو المؤثر وأن النهار أثر منه، فاتخذ قوة الأثر مقياسا لقوة المؤثر. وباختصار، كأنه يقول: إن تجلّيَ الشمس التي هي المؤثر ينكشف في تجلّي النهار الذي هو الأثر، أو إنَّ تجلّيَ النهار يفضح تجلّيَ الشمس.

وفريق أعطوْا للفعل "جلى" معنى يوافق أن يكون النهار معطيا للنور والشمس في النظر إليها من الأرض آخذة منه. فالإمام الطبريُّ يقول في تفسيره: أقسم الله تعالى بالنهار إذا أضاءَ الشمس. ويقول أيضا: النهارُ يجلّي الشمس ويظهرُها بضيائه. ومما أوردَه الإمام القرطبيُّ في جامعه أن "والنهار إذا جلاها" تعني: أن النهار يبيِّنُ بضوئه جرمَ الشمسِ. ونسب الإمام ابن كثير في تفسيره رأيا إلى العالم "مجاهد" يعتبر أن معنى:"جلاها" هو: أضاءها. ومجاهدٌ نفسه يعتبر أن المقصود من ضحى الشمس هو ضوء الشمس. ومن هنا يكون العالم "مجاهد" قد نسب للنهار أنه يضيء الشمس ذات الضوء، أي إنه قد فهم أن النهار هو ضوء ليس بالضرورة قادما من الشمس نفسها.

صدقا، إن تفسير "جلاها" بمعنى: أضاءها، هو المعنى الذي ذهبت إليه من قبل أن أقرأه للطبريِّ أوْ لمجاهد، ومن قبل أن أعلم أنه جاء في التفاسير؛ فقد انطلقت إلى نظريتي ليس من قول الله تعالى: "والنهار إذا جلاها" وإنما من قولِه تعالى في حق الأرض:"وقدر فيها أقواتها في أربعة أيام" (فصلت: 12). ورغم هذا فالسبق في إعطاء "جلاها" معنى: أضاءها، هو لمجاهد، وأمّا الفرقُ فهو أن مجاهدا عرف ولم يكتشف، وأما أنا، والفضل لله تعالى وحده، فقد عرفت واكتشفت: "سنُريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفُسهم حتّى يتبين لهم أنه الحقُّ أوَلم يكفِ بربِّكَ أنّه على كل شيءٍ شهيد" (فصلت: 53).

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير