فنحن عندما نقرأ القرآن الكريم وتطالعنا فيه كلمة نريد أن نتحقق من معناها اللغوي، ننظر في الشعر الجاهلي، وفي الأدب العربي القديم، أو في الأدب العربي المعاصر للدعوة، أو في الأدب الأموي، أي أدب العرب الذي اصطلح على الاحتجاج بكلامهم، وهو غزير. الأمر ذاته ينطبق على اليونان، فنحن عندما يستعجم علينا لفظ من ألفاظ الأناجيل المدونة في اليونانية، ننظر في الأدب اليوناني القديم ونفسر ذلك اللفظ منه. أما في التوراة، فلا مجال لذلك لانعدام وجود أدب عبري قديم خارج أسفار العهد القديم والمشناة، وبالتالي فلا مندوحة من تفسير غريب التورة بالمقارنة مع اللغات السامية الأخرى. وأول من تنبه لذلك اليهود المستعربون في الدولة العباسية، لأنهم ابتلوا برواية ناقصة للعهد القديم، الذي نقل بلغة ميتة، بكتابة سامية ترسم فقط الحروف الصامتة (مثل العربية تماما)، وبدون حركات تضبط اللفظ. لذلك استعار اليهود (والسريان) نظام الإعجام والحركات الذي وضعه أبو الأسود أو الخليل بن أحمد وضبطوا به أصوات التوراة دون علم بأصواتها الحقيقية، معتمدين في ذلك على النطق الآرامي للأحبار. لذلك لا يعرف كيف كانت التوراة بالضبط تلفظ. استعار اليهود المستعربون مناهج المسلمين في الدراسات الإسلامية وطبقوها على العبرية واليهودية، واستغلوا القرابة اللغوية بين العربية والعبرية وفسروا كل غريب التوراة من العربية، وهو منهج لا يزال اليهود وعلماء النصرانية يعملون به حتى يومنا هذا.
وللاستزادة من موضوع اليهود المستعربين، أحيل إلى الرابط التالي:
http://www.alfaseeh.com/vb/showthread.php?t=14748
أما الأدب اليهودي فهو أشمل بكثير، لأن اليهود كتبوا في شتاتهم أدبا كثيرا ولكن بلغات الأقوام التي أقاموا بينهم. وكانت المرحلة العربية (العهد الأموي حتى القرن الثالث عشر) أغنى مراحل فكرهم وفيه عصرهم الذهبي بإجماع جميع علمائهم.
ثم بدأ الأدب العبري يزدهر بعدما تحلل اليهود من تحريم نظم الشعر الدنيوي، فاستعاروا عن العرب العروض وقرضوا شعرا عبريا على البحور العربية. كان ذلك في القرن التاسع، وازدهر ذلك الشعر في الأندلس. فالأدب العبري كان شعرا في تلك الفترة. ولا أستثني من ذلك إلا فن المقامة الذي أخذوه عن العرب وكتبو مقامات بالعبرية.
بعد سقوط الأندلس اضطر اليهود إلى الخروج منها مع العرب لأن الإسبان ما كانوا يسمحون بوجود ديانة إخرى إلى جانب المسيحية، فهاجر ثلث منهم إلى المغرب ومصر، وثلث إلى الدولة العثمانية، وثلث إلى أوربا الشمالية (فرنسا وهولندة وألمانيا).
بما أن الكتب التي كتبها اليهود في العربية، أي الأدب اليهودي العربي، كانت أغنى مراحل اليهودية الفكرية، فاضطروا إلى ترجمتها إلى العبرية التي ما كانت تستوعب ذلك الفكر لقلة مفرداتها، فتوسعت العبرية بفضل حركة الترجمة الكبيرة من العربية إليها، وهي الحركة التي قامت بها أسرة يهودية هي أبناء طيبون الذين ترجموا أمهات كتب الأدب اليهودي العربي إلى العبرية، فدبت الحياة في أوصالها ودخلتها كلمات عربية كثيرة عن طريق الاقتراض اللفظي والمعنوي، فكانت هذه الحركة بداية الأدب العبري الحديث.
وأختم بنصين من نصوص الأدب اليهودي العربي، واحد بالعربية (لمروان بن جناح) وآخر من بالعبرية (للحريزي).
يقول ابن جناح (وهو سيبويه اليهود وخليلهم) مدافعاً عن اشتغاله بعلم اللغة ضد أصحاب التلمود:
"ورأيت القوم الذين نحن في ظهرانيهم [= العرب] يجتهدون في البلوغ إلى غاية علم لسانهم على حسب ما ذكرناه مما يوجبه النظر ويقضي به الحق. وأما أهل لساننا في زماننا هذا فقد نبذوا هذا العلم وراء أظهرهم وجعلوا هذا الفن دبر آذانهم واستخفوا به وحسبوه فضلاً لا يُحتاج إليه وشيئاً لا يُعرج عليه فتعروا من محاسنه وتعطلوا من فضائله وخلوا من زينه وحليه حتى جعل كل واحد منهم ينطق كيف يشاء ويتكلم بما أراد لا يتحرجون في ذلك ولا يشاحّون فيه كأنه ليس للغة قانون يُرجع إليه ولا حد يُوقف عنده قد رضوا من اللسان بما يَسُر أمره عندهم وقنعوا منه بما سَهُل مأخذه عليهم وقَرُب التماسه منهم لا يدققون أصله ولا ينقحون فرعه، فلهم في اللغة مناكير يُغرب عنها وأقاويل يُزهد فيها. وأكثر من استخف منهم بهذا العلم وازدرى هذا الفن فمن مال منهم إلى شيء من الفقه [= التلموديون] تيهاً منهم بيسير ما يحسنونه منه وعجباً بنزر ما يفهمونه من ذلك حتى لقد بلغني عن بعض مشاهيرهم أنه يقول عن علم اللغة إنه شيء لا معنى له وإن الاشتغال به غير مجدٍٍٍٍ ولا مفيد وإن صاحبه مُعنّى وطالبه متعب بغير ثمرة ينالها منه. وإنما استسهلوا ذلك لقراءتهم ما يقرؤون من الفقه ملحوناً ودراستهم ما يدرسون منه مُصحّفاً وهم لا يشعرون وذلك لعدمهم الرواية وفقدهم الإسناد. وقد بعث ذلك أكثرهم على الاستخفاف بتقيد القرآن* وتمييز الـ ??? من الـ ??? والـ ???? من الـ ????. وأما علم التصريف والتكلم فيه فهو مما يتشاءمون به ويكادون يجعلونه من جملة الزندقة"!
ويقول الأديب اليهودي يهودا الحريزي (صاحب المقامات العبرية المشهورة بـ: "تَحْكِمُوني"، التي حاكى فيها الهمذاني في مقاماته) في "مقامة الشعر":
??? ?? ???? ????? ... ??? ????? ???? ??? ????? ... ?? ?????? ???? ???? ????????? ?? ???? ??? ?????? ...
"اعلموا أن الشعر العجيب كان منذ البداية مُلكاً للعرب ... وإن أشعارهم [أشعار الأمم الأخرى] ليست بشيء مقارنة بأشعار الإسماعيليين [= العرب] "!
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* يقصد بالقرآن: كتب العهد القديم. ولي عودة إلى هذه التسمية إن شاء الله.
شكر الله لكم.
عبدالرحمن.
¥