وفي الصفحةِ 59 نَقَلَ المرحوم ظبيانُ عَنِ الدجانيِّ قولَهُ: "والنواويسُ الحجريّةُ الستةُ لم يكنْ ظاهراً منها سوى أربعةٍ، وهي مليئةٌ بالعظامِ البشريّةِ، كما كانَ بينَ كلٍّ مِنَ الناووسَيْنِ مدفنٌ آخرُ بُنِيَتْ واجهتُه مِنَ الحجارةِ. وفي الساحةِ الشماليّةِ مِنَ الكهفِ عثرْنا على عِدَّةِ قبورٍ، وكانَ داخلُ الكهفِ مليئاً بالمدافنِ الحديثةِ والقديمةِ" (ص63).
ماذا نلاحظُ مِنَ النصوصِ السابقةِ؟
أ - مرّةً تُحَدِّثُنا عَنْ جماجمَ، ومرّةً عَنْ هياكلَ، ومرَّةً عَنْ عظامٍ.
ب - تارَةً تُحَدِّثُنا عَنْ ثماني جماجمَ، وهوَ: عددٌ محدودٌ؛ وكَرَّةً عَنْ عِدَّةِ قبورٍ؛ ومرةً عَنْ كثيرٍ مِنَ الهياكلِ.
ج - تُظْهِرُ النصوصُ أنَّ بقايا الأمواتِ غيرُ معروفةٍ أهِيَ مِنَ الزمنِ الحديثِ، أمِ الزمنِ القديمِ.
د - تتكلمُ النصوصُ عَنِ العثورِ على كثيرٍ مِنْ قِطَعِ النقودِ في النواويسِ، ولكنّها لَمْ تُحَدِّدْ تواريخَها، أوْ عددَها.
ومِنَ الغريبِ أنَّ ظبيانَ هو الذي يذكرُ هذا القولَ: "النواويسُ كأنَّها سبعةٌ، أوْ ثمانيةٌ" (ص143). وهوَ يوردُ أيضاً: "إنكَ ترى قبورَهم فتحتارُ أهي ستةٌ، أم سبعةٌ، أم ثمانيةٌ؛ وهذه آيةٌ إلهيّةٌ وهيَ أنَّهُ لا يعلمُ عددَهم إلاّ قليلٌ" (ص162). ألا يجوزُ مِنْ كلامِ كهذا أنْ نُسَمِّيَ طريقةَ "ظبيانَ" في التفسيرِ: طريقةَ التفسيرِ بالتحييرِ. فهل عجائبُ الدنيا: ستٌّ، أمْ سبعٌ، أمْ ثمانٍ؟ ..
ويذكرُ أيضاً أنَّهُ قد وُجِدَ فوقَ الكهفِ سبعةُ أعمدةٍ، ولقدْ حسِبَها تُشيرُ إلى عددِ فتيةِ الكهفِ (ص65)، ونسيَ ما أكَّدَهُ في الصفحةِ السابقةِ مِنَ العُثورِ على أربعةِ قبورٍ في الجهةِ الشرقيّةِ، وأربعةٍ أُخْرى في الجهةِ الغربيّةِ.
هذا، ولوْ زرتَ الكهفَ فلن ترى غيرَ ستةٍ من النواويس.
النَّمِرُ شاهداً
وأغربُ ما في أمرِ ظبيانَ، هوَ ما يُورِدُهُ مِنْ شهادةِ المؤرخِ الأستاذ: "إحسان النمر".
ولقدْ أحسنَ إلينا "إحسانٌ" إحساناً، وأساءَ لصاحبِهِ، إذْ يقولُ: "ومِنْ مظاهرِ هذا الكهفِ أنَّني وجدتُ فيه غرفتيْنِ، عَنْ يمينِ ويسارِ الداخلِ فيهِ، في كلٍّ منهما ناووسانِ مِنَ الحجرِ، المجموعُ أربعةٌ " (ص154). ولكنَّ " النَّمِرَ" يَروغُ مِنْ ذكرِ الصدقِ، ويُراوِغُ موهِماً المسلمينَ بالعثورِ على اثنيْنِ في كلِّ ناووسٍ؛ إذْ يقولُ: "المجموعُ أربعةٌ ففي كلِّ ناووسٍ اثنانِ"، ثُمَّ يُكْمِلُ مُخادَعَتَهُ:" وَثمَّ ناووسٌ خارجَ بابِ الكهفِ، مُلاصِقٌ للبابِ فهوَ للكلبِ، على الأرجحِ، ويظهرُ أنَّهم لَمْ يَرَوْا إبقاءَ الكلبِ في الكهفِ".
وكمْ وَدِدْتُ لوْ أنَّ ظبيانَ قدْ عَلِمَ للنواويسِ عدداً وحُسْباناً.
ولا يُحَدِّثُنا ظبيانُ عَنْ نواويسَ مِنْ نوعٍ واحدٍ، أوْ عَنْ أنَّها مِنْ تاريخٍ مُعَيَّنٍ، وإنما يَرْجُمُ أنَّها مِنَ القرنِ الثالثِ الميلاديِّ (ص66).
حقّاً، إنَّ ما يذهبُ إليهِ مِنْ بعثِ أهلِ الكهفِ في القرنِ الخامسِ، لا يتوافقُ معَ القرنِ الثالثِ؛ فمِنَ المفروضِ أنْ يعودَ تاريخُ النواويسِ – لو أنَّها كانتْ مدافنَ لهم، وعلى فرضِ القبولِ ببعثِهم كما يراهُ – إلى القرنِ الخامسِ.
ويذكرُ ظبيانُ أنَّ أحدَ النواويسِ يحملُ نجمةً ثُمانِيَّةً، وحولَها كتابةٌ باليونانيّةِ القديمةِ، وكأنَّهُ يريدُ إيهامَنا بصحةِ عثورهِ على ثمانيةِ قبورٍ، أو ثماني جماجمَ.
ومعَ أنَّ ذكرَ الكتابةِ اليونانيّةِ قدْ تكررَ، إلاّ أنَّ ظبيانَ لَمْ يُبَيِّنْ عَنْ أيِّ شَيْءٍ تتحدثُ، وينسى أنَّها تخصُّ عصراً قبلَ الميلادِ، وهوَ نفسُهُ يوردُ أنَّها بخطٍّ يونانيٍّ قديمٍ، وفينيقيٍّ قديمٍ (ص66)، بلْ وبخطٍّ مِنْ عهدِ ثمودَ (ص144).
وإنَّ منطقةَ الرجيبِ ذاتُ زُروعٍ ومَراعٍ، وهيَ مطروقةٌ معمورةٌ بالناسِ من آلاف السنين قبلَ الرومان؛ مِمَّا لا يُؤَهِّلُها أنْ تكونَ موضعاً لكهفٍ يأوي إليهِ مَنْ يعتزلُ قومَهُ، هارباً منهُم، قاصداً أنْ لا يَصِلوا إليهِ.
كهف ظبيان وكهف القرآن
يحكم ظبيانُ وشهودُهُ مِنْ ذوي العمائمِ واللِّحى (ص166) أنَّ أوصافَ الكهفِ، المذكورةَ في القرآنِ الكريمِ، تنطبقُ على أوصافِ كهفِ الرجيبِ، بلْ وعليه دونَ غيرِهِ مِنْ كهوفِ الأرضِ جميعاً (ص55، ص67، ص93، ص160، ص161).
إنَّ ما حكمَ به ظبيانُ وشهودُهُ، هو: مَحْضُ اعتباطٍ؛ فكهفُهم مفتوحٌ بِبابٍ إلى الجنوبِ، ولا تدخلُ أشعةُ الشمسِ إلاّ إلى قصيرٍ مِنَ المسافةِ في مدخلِهِ (ص 94). وهو بذلكَ مظلمٌ حتى في سُطوعِ الشمسِ (ص52).
فعلاً، فكهفُ الرجيبِ لا إلى الشرقِ مفتوحٌ، ولا مِنَ الغربِ تَدْخُلُهُ ريحٌ، وهذا للقرآنِ المجيدِ مُخالِفٌ صريحٌ. ومِنَ العجيبِ أنْ يوردَ ظبيانُ – في معرضِ الاستدلالِ على تصديقِ كهفِهِ - قولاً لابنِ كثيرٍ يدلُّ على انفتاحِ كهفِ الفتيةِ إلى الشرقِ، وإلى الغربِ (ص94).
وتَحَدَّثَ ظبيانُ عَنْ وجودِ بقايا معبدٍ فوقَ الكهفِ، ولكنَّه نسيَ أنَّ المعبدَ الذي اتَّخَذَهُ العاثرونَ على فتيةِ الكهفِ، لم يكنْ فوقَ الكهفِ. وبناءُ المعبدِ - عندَهُ - مرةً يعودُ إلى زمنِ "ثيودوسيوس الثاني": (408 - 450م) {ص97}، وتارةً إلى عهدِ "أنطاسيوس" في سنةِ 497م {ص128}، وكَرَّةً إلى عصرِ "جستنيوس الأول": (517 - 527م) {ص28، ص62}.
==========
إلى الحلقة الثالثة
¥